ترزح دول الهلال الخصيب وتحديدا سوريا والعراق ولبنان، منذ اكثر من اربع سنوات تحت نار حرب كونية تخاض فيها وعليها بين محورين. محور المقاومة المدعوم من منظمة شنقهاي ودول البريكس وتمثل ايران وسوريا والمقاومة راس الحربة فيه.ومحور اميركا والاطلسي واسرائيل وتمثل تركيا والسعودية ودول الخليج والقوي التكفيرية الوهابية راس الحربة فيه . جندت اميركا وحلفائها في حربها الهجومية على محور المقاومة قوي التكفير الوهابي التي استقدمت من اكثر من 60 دولة في العالم بطلب وتوجيه اميركي اطلسي ، وتمويل خليجي ، وتجهيز وتسهيل عبور اسرائيلي تركي اردني ولبناني (14 اذار).والغاية من هذه الحرب ضرب المقاومة التي افشلت مشاريع اميركا واسرائيل،واسقاط سوريا المقاومة والممانعة وواسطة العقد والعمق الاستراتيجي للمقاومة ،وضرب النفوذ الايراني باتجاه المتوسط الداعم للمقاومات ، والتصدي للمشاريع الطاقوية الروسية الايرانية ،وتعطيل طريق الحرير الصينية باتجاه المتوسط، واقامة شرق اوسط صهيواميركي جديد اثني عرقي بديل لدول سايكس بيكو التي لم تعد تصلح للمشاريع الصهيواميركية في المنطقة.
استعملت اميركا استراتيجية الحرب الناعمة والحروب بالوكالة للانقضاض على سوريا والعراق وجندت بروبغندا اعلامية ضخمة من الفضائيات العربية للترويج للهلال الشيعي واطلاق الحرب السنية الشيعية لتعبئة التكفيريين من كل اصقاع العالم واستجلابهم الى المنطقة لزرع دولة داعش على نصف مساحة سوريا وربع مساحة العراق،وكسرها للحدود بين سوريا ولبنان والعراق ، وضرب الجيش في العراق وسوريا لنشر الفوضى الهدامة ،واقامة مناطق عازلة لا سلطة للدولة فيها ونشر التوحش وتهجير الاقليات وقتلهم،وضرب الهوية القومية والوطنية والنسيج الاجتماعي، والتي هي من اخطر الحروب على وحدة المجتمع حيث هوت الهوية من قومية جامعة الى وطنية قطرية ثم فرعية دينية، ثم تفرّعت الى فرعية مذهبية.
واجهت ايران وسوريا ومحور المقاومة المحور الاميركي باستراتيجية صمود لمنع اميركا وحلفائها من اسقاط اي طرف من اطراف محور المقاومة حيث شكلت قوات الحشد الشعبي في العراق لمساندة الجيش العراقي واستطاعت ان تستعيد زمام المبادرة العسكرية في العراق ، وتشكلت ايضا قوات الدفاع الوطني في سوريا لمساندة الجيش السوري حيث استعاد زمام المبادرة في محيط السويداء ودرعا وبعض مناطق الشمال. ثم انتقل هذا المحور لاستراتيجية الهجوم باشتراك الجيش السوري والمقاومة الاسلامية في الحرب في سوريا وتحرير مرتفعات القلمون وجروود عرسال لتامين دمشق وحماية لبنان .
نتج عن هذه الحرب تاجيج الحالة المذهبية بعد تنظيف داعش مناطقها من غير السنة وتفجير المساجد والاضرحة.وحدوث توازن سلبي بين المحورين حيث عجزت القوي التكفيرية ومشغليها من كسر سوريا او العراق وكذلك لم يستطيع محور المقاومة هزيمة داعش حتى الان بسبب الدعم الاقليمي والدولي لها رغم اعلان التحالف الحرب عليها. ومن خلال التدقيق في خريطة تمدد داعش واخواتها ، يظهر وكأن هناك خطوط تماس جديدة يراد لها أن ترسم ،حيث فعليا اكتملت حدود دولة داعش واكتملت مواردها الطاقوية لان المناطق التي سيطرت عليها غنية بالنفط والغاز ولم يبقى ينقصها الا منفذا على البحر. وكذلك اكتملت حدود الدولة الكردية في العراق الغنية بالموارد ،وهناك محاولة وصل المناطق الكردية في شمال سوريا بعضها ببعض بعد احتلال تل ابيض بدعم اميركي واضح. فهل ما يجري على الارض هو مقدمة أولية لرسم خريطة نفوذ جديدة، ستقسم عبرها دول الهلال الخصيب إلى دويلات مذهبية اثنية كما تشير خطط برنار لويس ورالف بيتر ؟. وهل هذا التقسيم ان ترسخ لن يشمل الدول المجاورة وخاصة تركيا والسعودية وبقية دول العالم العربي؟.وهل سيسمح محور المقاومة وداعميه روسيا والصين بترسيخ التقسيم وهل لهم مصلحة بذلك؟.وما هي الاستراتيجية الواجب العمل بها لافشال هذا المشروع.
رغم اكتمال جعرافيا الكيانان السني والكردي ومواردهما الاقتصادية ،ورغم القلق من القبول بالوقائع المستجدة التي عودتنا اميركا والغرب التعامل معها اذا امنت لها مصالحها .الا ان داعش كأمها القاعدة يبدو انها خرجت عن ضبط وخطط اميركا وبعد ان تمكنت من الجعرافيا، وباتت استراتيجيتها توحيد دولتها من الهلال الخصيب الى كل العالم الاسلامي، لا تفتيت المنطقة كما تريد اميركا. وبالتالي ستتناقض مشاريعها مع مشاريع اميركا وحلفائها (تركيا والسعودية) . حيث ان الدولة الكردية ان قامت ستدفع اكراد تركيا للانضمام اليها وستتفتت تركيا، لهذا صرح اردوغان بالامس انه لن يسمح بقيام كيان كردي على حدوده الجنوبية وسيتقم الى شمال سوريا.وكذلك ان تقسم العراق سيضم شيعة السعودية الى دولة شيعستان العراقية في الجنوب وبالتالي ستتفتت السعودية .
وتقسيم سوريا والعراق سيشمل تقسيم ايران ايضا وفق مشرووع برنار لويس، وستتأثر به روسيا حيث يوجد فيها 20 مليون مسلم ،و22 مليون مسلم في الجمهوريات المستقلة، وستصل شظاياه الى اقليم شيانجنغ المسلم في الصين .وهذا ما لن تسمح به الدول الثلاث ومحور المقاومة لانه يقوض مشاريعه. لذلك صرع لافروف ووزير خارجية الصين ،ووزراء خارجية دول منظمة شنقهاي الذين اجتمعوا الشهر الفائت في روسيا ان داعش وصلت الى حدود محور شنقهاي (افغانستان) وعلينا رسم استراتيجية مواجهة لكسرها.
الا ان التفجيرات الاخيرة التي حصلت في تونس والكويت وفرنسا ،وتكاثر الاميركيين والاوروبيين والروس والصينيين الملتحقين بداعش جعلت العالم يقرع ناقوس الخطر للتصدي لها . لكن استراتيجية التحالف الغربي لضرب داعش فشلت حتى الان في تحجيمها وفشلت في تجنيد مقاتلين معتدلين لهذه المهمة، وفشلت ايضا في تجفيف مصادرها المالية والتسليحية والبشرية بسبب الموقف التركي والخليجي الداعم لداعش وعدم جدية اميركا في ذلك لاستعمالها كورقة ضغط على ايران لتقديم تنازلات في المفاوضات النووية .
فاستراتيجية محور المقاومة العسكرية هي الاجدى والافعل في ضرب داعش وتقويضها، وقد شخص سماحة السيد حسن نصرالله الحرب بانها حرب وجود مع القوى التكفيرية.وقدم نموذج الجيش والشعب والمقاومة لتعميمه على دول المنطقة بعد ان اثبت جدواه في لبنان وبدء يعطي ثماره في سوريا والعراق واليمن . لكن هذا النموذج يواجه عدة تحديات المطلوب التغلب عليها كي يكتمل ويتحول الى مشروع حرب تحرير قومية تكون المقاومة عمادها الاساسي ، وتشكل الحل الحقيقي لاعانة الهلال الخصيب كي ينهض ويعيد وحدته وحمايته من مشاريع التفتيت والاندثار.ونلخص هذه التحديات بالتالي:
1-التحدي الاول لمحور المقاومة هو غياب التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري وبين الجيشين العراقي والسوري بضغط اميركي واضح،في حين تقيم اميركا وحلفائها غرفتي عمليات في تركيا والاردن لتنسيق العمل وقيادة العمليات .لهاذا بات من الضرورة قيام غرفة عمليات واحدة تشمل جيوش سوريا والعراق ولبنان والمقاومة الاسلامية وقوات الحشد الشعبي في العراق والدفاع الوطني في سوريا ترسم خطط المواجهة وتقود العمليات بتنسيق كامل مع ايران، ولا تقيم وزنا لحدود سايكس بيكو التي فعليا مزقت من قبل داعش واخواتها .فحين يكون مسرح قتال داعش واخواتها يشمل العراق وسوريا ولبنان بقيادة غرفة عمليات واحدة ، فالمطلوب من محور المقاومة الرد بنفس الاسلوب متحدا متضامنا .ففي حرب الوجود تسقط كل الموانع والحدود.
2- التحدي الثاني صعود التوترات المذهبية حيث يحتل هذا الهاجس مكانة متقدمة في تقدير «حزب الله»وايران ومحور المقاومة لان الفتنة المذهبية هي أحد المخاطر الكبرى على مشروع المقاومة وبالتالي على مستقبل الأمة. سعى «حزب الله» محلياً وإقليمياً ومن خلال التعاون مع الجمهورية الإسلامية لايجاد منصات ومنابر وآليات عديدة لتمتين الوحدة بين المسلمين على أسس دينية وسياسية. إلا أن السنوات الأخيرة التي تلت اجتياح العراق والحرب في سوريا والتطهير المذهبي فيهما ادى الى فورةً مذهبيةً كادت ان تقضي على التنوع الطائفي وتحرق بنيرانها الهلال الخصيب والمشرق العربي.حيث تمكن جهاز الدعاية والفضائيات الوهابية الضخمة من تعويم التصورات المذهبية لأزمات المنطقة لا سيما في لبنان وسوريا والعراق.لهذا يشير الدكتور عبد الحليم فضل الله الى أن «للحزب اليوم مصلحة هامة بالحفاظ والدفاع عن التنوع داخل المنطقة، فالقضاء على هذا التنوع هو تحد جديد يشكل خطراً على «حزب الله» وبيئته وعلى لبنان ومشروع المقاومة والحضور الإسلامي في المنطقة والعالم.» وإنطلاقاً من هذه المقولة، نفهم سعي «حزب الله» اليوم للدفاع عن هذا التنوع داخل المنطقة، والذي من دونه ستخسر البيئة الحاضنة لخيار المقاومة جزءاً من اتساعها واستقرارها. ومن هذا المنطلق ايضا نفهم ان للحزب مصلحة واضحة في ترميم العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، كجزء أساسي من سياسته الإقليمية التي ينبغي أن تنعكس بدرجة أولى تبريداً في الداخل اللبناني. الا ان التوظيف السياسي للحرب المذهبية والمال الوهابي الكبير المصروف عليها كان افعل من الجهد الكبير الذي بذله حزب الله وايران . لقد كانت الطائفية والمذهبية هي المدخل الذي دخل منه الاستعمار لضرب امتنا وتفتيت نسيجها الاجتماعي والسياسي واستلاب خيراتها منذ اكثر من مئة عام حتى الان، ولا نزال نمر في نفس المحنة ونعيد تجربة (داوني بالتي كانت هي الداء).
3-التحدي الثالث المشاريع التسووية المطروحة للمنطقة والتي يتم التداول فيها وهي: اما التقسيم، اما تعميم النموذج البناني (اللبننة) او الفدرالية كمشاريع سياسية لسوريا والعراق للخروج من الفتنة بعد وهن الحكومة المركزية في بغداد ودمشق وعجزهما عن دحر القوى التكفيرية والسيطرة على كامل حدودها . وبعد التحالف الكردي الاميركي في العراق وسوريا ومحاولاتهم بدعم طيران التحالف تطهير داعش من محيط مناطق(الجزيرة كوباني عفرين وتل الابيض) للوصول الى جرابلس وقطع طريق داعش الى تركيا تمهيدا لضربها مما يعني تقليص النفوذ التركي في سوريا والعراق، وبعد طرح الاكراد في العراق وسوريا للفدرالية كحل. اعتقد انه قد يؤخذ بالفدرالية كحل في سوريا والعراق برعاية روسية دولية بعد انجاز الملف النووي مع ايران والتفاهم على انهاء داعش بعد تفاقم خطرها على العالم.هذه التسوية الاقليمية الدولية ستأخذ بنفوذ ومصالح القوى الاقليمية والدولية المتصارعة في سوريا والعراق ولبنان .هذا الحل هو تقسيم مؤجل وبرسم المستقبل، والمؤسف ان هذه الحلول تطرح بغياب المشروع القومي بعد الانهاك الذي حل بجيشي سوريا والعراق مما جعلهما غير قادرتين على المناورة .
امام هذه الاستحقاقات المصيرية التي ستحدد مستقبل الهلال الخصيب والشرق الاوسط برمته ما العمل المطلوب لمواجهة هذه التحديات كي لا تأتي الحلول على حسابنا .
أ- الدعوة الى مؤتمر قومي عام تحت عنوان الدفاع عن الهلال الخصيب ،يشمل الاحزاب وقوى المجتمع المدني والمثقفين وكل القوى الحية في المجتمع ،لاعلان النفير العام لمواجهة حرب الوجود التي تخاض ضدنا، والاستنفار عسكريا وسياسيا واعلاميا وتعبويا لرفض تقسيم المنطقة (الظاهر والمقنع) ،وتقويض هذا الفكر الظلامي الغريب عن تقافتنا وحضارتنا،ولرسم خطط المواجهة واساليب التنفيذ. ودعوة احزاب العالم العربي وقواه الحية لمؤازتنا والانخراط معنا في المواجهة ليصبح الدفاع عن سوريا والعراق دفاعا عن الوجود والتاريخ والتراث والحضارة والقيم الانسانية. فكما يلجأ عدونا للتعبئة الأممية لأستجلاب قوى الأرهاب التكفيري ويلقيها في وجهنا لينشر في الارض قتلا ودمارا وخرابا وتوحش ، فإن الواجب القومي والانساني يدعونا ويلزمنا أن يكون الرد بتعبئة كل امكانات الامة للمواجهة الوجودية ، ولأسباب ارقى واسما هدفاً بالنظر لما تكتنزه سوريا والعراق من قيم حضارية وثقافية وقومية وانسانية.
ب- ينبثق عن هذا المؤتمر الدعوة الى اطلاق مشروع حرب التحرير القومية في كل دول الهلال الخصيب تكون المقاومة الاسلامية عماده نظرأ لما راكمته من تجربة قتالية ضد عدونا الاسرائيلي والتكفيريين اثبتت نجاحها ، واشراك قوات الدفاع الشعبي في سوريا والعراق فيها .ودعوة الاحزاب وكل مؤسسات المجتمع في لبنان وسوريا والعراق للانخراط في هذه الجبهة ،وانشاء قيادة واحدة لها وتبني مشروع تحريري نهضوي سياسي تغييري متكامل. اذا كان العدو التكفيري قد الغى حدود سايكس بيكو وجعل مسرح عملياته واحد في سوريا والعراق ولبنان ،فالواجب ان يكون مسرح المواجهة في هذه الدول واحد، وعار علينا ان نبقى متمسكين بهذه الحدود. واذا كان عدونا يقتل ويهجر ويكفر كل المذاهب وحتى اهل السنة الغير مؤيدين لمشروعه التكفيري .فالرد يكون بالتمسك بوحدة المجتمع التي تصون التنوع وتحافظ عليه . وصيانة التنوع لا تكون فقط برفض مشروع التكفير واطلاق مشروع الصحوة الاسلامية وحوار الاديان ، بل بإعلاء الهوية الوطنية والقومية الجامعة على الهويات الفرعية وتحديداً الدينية والمذهبية، وفصل الدين عن الدولة والسعي لاقامة الدولة المدنية الديمقراطية القوية والعادلة وتكريس مبدأ المواطنة بالحقوق والواجبات، وتحديث القوانين الوضعية لتأمين التمثيل الصحيح للارادة الشعبية، وصون الحريات والتوزيع العادل للثروة القومية.
ان مشروع حرب التحرير القومية لتحرير الارض والانسان واقامة النظام الجديد، نظام الوحدة القومية والعدالة الاجتماعية الاقتصادية والعدالة الحقوقية ،بات هو المنطلق لتصويب الانحراف الذي اصاب المجتمع والدولة في الهلال الخصيب،وبات اكثر من ضرورة لمواجهة حرب الوجود على المجتمع والسير به نحوى النهوض من الموت المحتم . اما إذا استمرّينا في السير في الحلول الترقيعية الطائفية والتوافقية فستبقى امتنا تتخبط في صراع الهويات الفرعية والمتفرّعة،وتلتهمها حروب تتجدد وقودها المذهبية لتحرق ما تبقى فيها من تراث وحضارة.