102
لا يبدو ما شاهدناه وما نشاهده من أداء بشري، ضمن الكيانات السياسية لهذا الشرق الحزين، في مستهلّ هذا القرن الجديد، يبشّر بخير عميم، أو ينذّر بشر مستطير، فاستشراف الخير والشرّ مسألتان معرفيتان تحتاجان إلى أدوات ومسالك ذات نظام محدد وواضحٍ ومعلن، بالإضافة إلى ما يجود به الواقع الجاري من صور وممارسات، تفضي إلى هيولى تجمهرية عبثية وقاتلة، لا يمكن تفاديها إلا بالانتقال من الفوضى إلى النظام حصراً، وهذه عملية معرفية، لا تفي موجودات هذا الشرق الثقافية بمستحقاتها، نظراً للنقص الشديد في أدواتها ومسالكها، بسبب احتقار دام طويلاً – على أيدي الجميع ودون أية استثناءات- للمعرفة بأشكالها النهضوية جميعها، فلا الذين حازوا على العلم استطاعوا تحويله آلة معرفة مفيدة، ولا الذين رفضوه بحجّة اكتمالهم المعرفي استطاعوا أن يكونوا "قدّ الحمل"، في محاولتهما للانتقال من الفوضى إلى النظام.
مسألتان تمّ تغييبهما وعلى الأغلب سحقهما، تغييباً وسحقاً مشبوهاً، بواسطة استحضارهما اللغوي الشفاهي الدائم، واستبعادهما من ساحة الفعل المعرفي العملي المجسّد، الأولى هي حضور علماء الإجتماع لرصد عملية توليد المجتمع والعمل على المعطيات والمظاهر الدلالية عن سيرورته، والثانية هي ربط الجماهير بالجامعة (بغض النظر عن كونهم مجتمعاً دائماً أم مجرّد جمهرة بشرية تنظمها شرائع سلطوية تحتكر العنف). هذا الربط المشيمي هو الوحيد القادر على التعامل معرفياً مع المشكلات المستجدة الناتجة عن العيش البشري، ليبدو تغييب هاتين المسألتين هو تغييب للحقيقة كما هي، إن كانت خيراً عميماً، أو شراً مستطيراً، أو ما بينهما من منتجات حاصلة عن التجمع البشري.
أين هو علم الاجتماع اليوم وأين هم علماؤه؟ هل كانت هناك حاجة إليهم أم لا؟ وهل وجود علم اجتماع ضرورة للعيش؟ أم هو مجرد ترف خيري يسدد بعض الحاجات الهامشية؟ لماذا هم موجودون ومتوفرون في كل (الدول) و(المجتمعات) وليس لهم أيّ فعل يذكر عندنا؟ أم هم ممنوعون عندنا؟ إلخ.. طبعاً ليس هناك من إجابة واضحة أو رشيدة أو مقنعة يمكن لها أن تخفف من أوجاع مرض فقدان المعرفة الاجتماعية، وحتى لو وجدت هذه الإجابة فالمرض تجاوز حدود العلاج، ولعل من أهمّ أعراضه المحبطة هو عدم العلم بوجوده ككيان فاعل على الأرض، على الرغم من وجود هذا الكم من أقسام علم الاجتماع في كليات الآداب في "الجامعات" المنتشرة بكثافة على بطاح هذا المشرق "العربي" المجيد.
المشكلة ليست في تغييب علم الاجتماع فقط، الذي تطوّر في هذه الأيام ليصبح تيارات ومدارس، وتشابك مع العلوم الإنسانية والتقنية لدرجة يمكننا معها أن نتحدث عن علم الإجتماع الرياضي، المشكلة الأساسية هي في البديل الذي يقوم مقام علم الإجتماع وعلمائه، وهنا يمكننا التساؤل أيضاً، "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟"، بسب ملء هذا الفراغ بالطريقة نفسها التي يمتلئ بها أيّ فراغ آخر، أي بالعنف الخيري أو الذرائعي الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهذا بحدّ ذاته تحوّل عجائبي مثير، فمن علمٍ يسعى إلى التسالم الإجتماعي ويخدمه، إلى تسابق على حيازة الغلبة عبر تقدير التوجهات الإجتماعية برصدها من النواحي الانصياعية لمتطلبات الغلبة، سياسية كانت أم أخلاقوية، حيث تولت أجهزة الاستخبارات من جهة وأجهزة الوعظ/ الدعوة من جهة ثانية هذه "المسؤولية"، لتتحول منتجات علم الاجتماع المنتظرة إلى مجموعة من الأوامر والنواهي أو الى تهم وأحكام جاهزة، لا يمكن تنفيذها إلا بالعنف المقنّن ذرائعياً، لدرجة أنه من الصعب إعادة الاعتبار للحاجة إلى هذا العلم وعلمائه بسبب هذا الكمً من الفوات المعرفي الذي ألغى الجدوى من ممارسة المعارف خارج مشافهتها اللغوية.
على التوازي تكمن مسألة ربط الجامعة بالمجتمع كلغم قابل للانفجار في كل لحظة، فوجود هذه الجامعات وممارساتها لم تتجاوز المفهوم العثماني للتعليم حتى يومنا هذا، هذا المفهوم الذي عني بتأمين موظفين للدولة العليّة، ما زال ممارساً وبإصرار في كافة المفاصل المؤدية إلى استخدام العلم الذي تتوقف مهمته قبل العمل على تحوّله إلى معرفة، وليس فقدان الاستفادة من العلوم هو الخسارة الكبرى في هذا المجال فمنتجات العلوم يمكن استيرادها كتكنولوجيات مشخّصة هذه الإيام، ولكن الخسارة الكبرى هي عدم تعريض الاحتقانات الاجتماعية (من حاجات ومتطلبات ومفاجآت) إلى شمس العلم ومن ثم المعرفة، وهنا يبدو خطاب متبجحو الخصوصيات الثقافية كاذباً ومدلّساً، فالجامعات المحلية هي الأقدر على التعامل مع هذه الاحتقانات، وتوليها لهذه المهمة يتعارض تماماً مع الاستبداد المعرفي بشقّيه، الشعور بالاكتمال المعرفي وهو معلن ومتفاخر وتسلّطي، والشعور بالنقص المعرفي وهو خفي سراني وعنيف، والإثنان يطلّان على المعرفة الحقوقية بقوةٍ وقسر، ليظهر وعمليّاً أن عدم ربط الجامعة بالجماهير في الحياة اليومية هي مصادرة لحق هذه الجماهير بالتحوّل إلى مجتمع بالمعنى المعاصر والتقني لهذه الكلمة.
إن من ينظر إلى دور جامعات العالم في تفكيك المشكلات المجتمعية المحلية وتحليلها (ضمن حدود وطنها وخارجه) يستطيع أن يلمس الفارق الحضاري من كم الإنجازات الثقافية والتقنية التي تمارسها هاتيك المجتمعات، وبالتالي يغدو الاستغناء عن خدمات الجامعة العلمية، هو استغناء تام عن معرفة حقائق المشاكل وخيارات الحلول واستبعاد المسؤول المعرفي عن حلّها لمصلحة المسؤول التسلطي الآنف، لذلك وكواحد من الأسباب الأساسية لن يستطيع هذا المشرق الحزين أن يحل أيّاً من مشاكله مهما كانت صغيرة إلا بتجاهلها ومراكمتها؛ ومن هنا تتحول مسألة تغييب الجامعة إلى لغم يمكن أن ينفجر في لحظة الحاجة إليها.
ما نراه اليوم من أداء ثقافي (متفاخر) كان يمكن تفاديه، من دون الحاجة إلى الدخول في أيّة مغامرات، فالتشخيص الصحيح يقود إلى دواء صحيح، وهذا الذي لم يحصل عليه هذا المشرق بسبب سحق متراكم لعالم علم الاجتماع ودور الجامعة بين أيدينا وأمام أعيننا.
مسألتان تمّ تغييبهما وعلى الأغلب سحقهما، تغييباً وسحقاً مشبوهاً، بواسطة استحضارهما اللغوي الشفاهي الدائم، واستبعادهما من ساحة الفعل المعرفي العملي المجسّد، الأولى هي حضور علماء الإجتماع لرصد عملية توليد المجتمع والعمل على المعطيات والمظاهر الدلالية عن سيرورته، والثانية هي ربط الجماهير بالجامعة (بغض النظر عن كونهم مجتمعاً دائماً أم مجرّد جمهرة بشرية تنظمها شرائع سلطوية تحتكر العنف). هذا الربط المشيمي هو الوحيد القادر على التعامل معرفياً مع المشكلات المستجدة الناتجة عن العيش البشري، ليبدو تغييب هاتين المسألتين هو تغييب للحقيقة كما هي، إن كانت خيراً عميماً، أو شراً مستطيراً، أو ما بينهما من منتجات حاصلة عن التجمع البشري.
أين هو علم الاجتماع اليوم وأين هم علماؤه؟ هل كانت هناك حاجة إليهم أم لا؟ وهل وجود علم اجتماع ضرورة للعيش؟ أم هو مجرد ترف خيري يسدد بعض الحاجات الهامشية؟ لماذا هم موجودون ومتوفرون في كل (الدول) و(المجتمعات) وليس لهم أيّ فعل يذكر عندنا؟ أم هم ممنوعون عندنا؟ إلخ.. طبعاً ليس هناك من إجابة واضحة أو رشيدة أو مقنعة يمكن لها أن تخفف من أوجاع مرض فقدان المعرفة الاجتماعية، وحتى لو وجدت هذه الإجابة فالمرض تجاوز حدود العلاج، ولعل من أهمّ أعراضه المحبطة هو عدم العلم بوجوده ككيان فاعل على الأرض، على الرغم من وجود هذا الكم من أقسام علم الاجتماع في كليات الآداب في "الجامعات" المنتشرة بكثافة على بطاح هذا المشرق "العربي" المجيد.
المشكلة ليست في تغييب علم الاجتماع فقط، الذي تطوّر في هذه الأيام ليصبح تيارات ومدارس، وتشابك مع العلوم الإنسانية والتقنية لدرجة يمكننا معها أن نتحدث عن علم الإجتماع الرياضي، المشكلة الأساسية هي في البديل الذي يقوم مقام علم الإجتماع وعلمائه، وهنا يمكننا التساؤل أيضاً، "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟"، بسب ملء هذا الفراغ بالطريقة نفسها التي يمتلئ بها أيّ فراغ آخر، أي بالعنف الخيري أو الذرائعي الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهذا بحدّ ذاته تحوّل عجائبي مثير، فمن علمٍ يسعى إلى التسالم الإجتماعي ويخدمه، إلى تسابق على حيازة الغلبة عبر تقدير التوجهات الإجتماعية برصدها من النواحي الانصياعية لمتطلبات الغلبة، سياسية كانت أم أخلاقوية، حيث تولت أجهزة الاستخبارات من جهة وأجهزة الوعظ/ الدعوة من جهة ثانية هذه "المسؤولية"، لتتحول منتجات علم الاجتماع المنتظرة إلى مجموعة من الأوامر والنواهي أو الى تهم وأحكام جاهزة، لا يمكن تنفيذها إلا بالعنف المقنّن ذرائعياً، لدرجة أنه من الصعب إعادة الاعتبار للحاجة إلى هذا العلم وعلمائه بسبب هذا الكمً من الفوات المعرفي الذي ألغى الجدوى من ممارسة المعارف خارج مشافهتها اللغوية.
على التوازي تكمن مسألة ربط الجامعة بالمجتمع كلغم قابل للانفجار في كل لحظة، فوجود هذه الجامعات وممارساتها لم تتجاوز المفهوم العثماني للتعليم حتى يومنا هذا، هذا المفهوم الذي عني بتأمين موظفين للدولة العليّة، ما زال ممارساً وبإصرار في كافة المفاصل المؤدية إلى استخدام العلم الذي تتوقف مهمته قبل العمل على تحوّله إلى معرفة، وليس فقدان الاستفادة من العلوم هو الخسارة الكبرى في هذا المجال فمنتجات العلوم يمكن استيرادها كتكنولوجيات مشخّصة هذه الإيام، ولكن الخسارة الكبرى هي عدم تعريض الاحتقانات الاجتماعية (من حاجات ومتطلبات ومفاجآت) إلى شمس العلم ومن ثم المعرفة، وهنا يبدو خطاب متبجحو الخصوصيات الثقافية كاذباً ومدلّساً، فالجامعات المحلية هي الأقدر على التعامل مع هذه الاحتقانات، وتوليها لهذه المهمة يتعارض تماماً مع الاستبداد المعرفي بشقّيه، الشعور بالاكتمال المعرفي وهو معلن ومتفاخر وتسلّطي، والشعور بالنقص المعرفي وهو خفي سراني وعنيف، والإثنان يطلّان على المعرفة الحقوقية بقوةٍ وقسر، ليظهر وعمليّاً أن عدم ربط الجامعة بالجماهير في الحياة اليومية هي مصادرة لحق هذه الجماهير بالتحوّل إلى مجتمع بالمعنى المعاصر والتقني لهذه الكلمة.
إن من ينظر إلى دور جامعات العالم في تفكيك المشكلات المجتمعية المحلية وتحليلها (ضمن حدود وطنها وخارجه) يستطيع أن يلمس الفارق الحضاري من كم الإنجازات الثقافية والتقنية التي تمارسها هاتيك المجتمعات، وبالتالي يغدو الاستغناء عن خدمات الجامعة العلمية، هو استغناء تام عن معرفة حقائق المشاكل وخيارات الحلول واستبعاد المسؤول المعرفي عن حلّها لمصلحة المسؤول التسلطي الآنف، لذلك وكواحد من الأسباب الأساسية لن يستطيع هذا المشرق الحزين أن يحل أيّاً من مشاكله مهما كانت صغيرة إلا بتجاهلها ومراكمتها؛ ومن هنا تتحول مسألة تغييب الجامعة إلى لغم يمكن أن ينفجر في لحظة الحاجة إليها.
ما نراه اليوم من أداء ثقافي (متفاخر) كان يمكن تفاديه، من دون الحاجة إلى الدخول في أيّة مغامرات، فالتشخيص الصحيح يقود إلى دواء صحيح، وهذا الذي لم يحصل عليه هذا المشرق بسبب سحق متراكم لعالم علم الاجتماع ودور الجامعة بين أيدينا وأمام أعيننا.