94
تتردد في أدبيات بعض الكتاب ضرورة البحث عن نموذج إنسان جديد يكون خلاصاً لما تتخبط فيه أمتنا، واستطراداً البشرية الراهنة، من أزمات ومحن. وأولئك الكتاب لا يفوتهم علم ولا تنقصهم معرفة ليسترشدوا سواء السبيل، إن أرادوا.
والبحث عن إنسان جديد بقي واجباً على المتنورين في كل حقبة وفي غمرة كل محنة، بحث يتنكبه عارفون مهيأون ليقودوا حياتنا الثقافية ولينيروا سبل أمة لما تهتد إلى ذاتها بعد، إنما يلزمهم وضوح الرؤيا والتصفية من الاختلاط المتراكم في مزالق السياسة والإعلام والدعاية.
في مدى أول آذار 2014 ذكرى أنطون سعادة، مؤسس النهضة القومية الاجتماعية، يحضرني الزعيم، وهو لما يفارقني قط في حياتي، وبعد مراسم الترحيب والتهنئة، يعاتب المتسائلين طيلة ثمانية عقود سلفت، الذين لم يقروا بوضوح مهتدين إليه "معلماً وهادياً للأمة والناس".
قدّم سعادة في شخصه وفي جهاده القومي الاجتماعي بما فيه الفكري والسياسي والفلسفي والأخلاقي نسقاً جديداً بالكلية وأصيلاً في الوقت نفسه.
جِدّته تركزت في أنه هدم التراكم الغريب فوق قيمنا وروحنا وتاريخنا وحقيقتنا الذي شكل فسيفساء لامعة براقة لكنها مشوشة ومتخبطة من قيم فردية وفئوية وطائفية ووصولية انتهازية معيبة مَرْكَزت الفرد منطلقاً وغاية لإنسانها وحياته، يمكنها أن تقدم إنساناً فردياً ناجحاً مرتفعاً فوق بقايا الآخرين وأشلائهم وجراحهم فلا يهتم لما يعانون ولا يرتجف قلبه لأنينهم، بل يستغلهم ليربح ويبتزهم ليقوى.
أليس هذا النموذج الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي ما زال سائداً في شعبنا حتى اليوم، حيث لم تُنِر القومية الاجتماعية أرواح مواطنينا؟ حقاً. بينما سعادة ترك المهجر حيث له فيه رأسمال اجتماعي كبير أسسه له كبير الجالية السورية حينها والده المفكر والعالم والطبيب واللغوي خليل سعادة، وعاد بعد رحيله، لإنقاذ أمته، مبتدئاً من الصفر، بل من تحت الصفر، باحثاً عن ثلة من المؤمنين، أعاد مرات عدة الكرّة في البحث، ليعتمد رجالاً يمكنهم أن يحملوا رسالته الفريدة، وما استطاعوا كما ينبغي. واستمر يجمع من فسيفساء مجتمعنا الطائفية والسياسية وعقائدها المتضاربة المفككة مداميك نهضته حتى غدت "نهضة عز مثيلها في الشرق"، كما قال المرحوم كمال جنبلاط في استجوابه الحكومة اللبنانية في أيلول العام 1949 بعد الإعدام الجسدي لسعادة.
وأصالة نموذج سعادة، تركزت في انه لم يذهب إلى أي فلسفة جديدة يقتبس منها لبنات لعمارته الفكرية الفريدة، لا الفلسفات الشرقية من مانوية إلى غنوصية ولاوتسية وكونفوشيوسية وهندية، ولا الغربية من وجودية ومتعالية ومادية جدلية وروحية وأداتية وظاهراتية وتاريخانية وعقلية وكاثوليكية وبروتستنتية لهجت بالإصلاح فتخلفت. بل استمد روح نهضته من قيم التاريخ السوري، بما هو التاريخ سجل حياة سورية ونسق إبداعها العظيم، فناً وحرفاً وجمالاً وموسيقى وفكراً وديناً وعمارة وإنساناً متألهاً فوق العصور وبطولة سخرت من المعجزات فكانتها وإرادة نظمت كل شيء، طوعت الجبال، غيرت مجاري الأنهر، استصلحت الصحارى والبوادي، غزلت الخيوط ونسجت القماش جمالات، استطلعت الثرى عناقيد دهشة وأرسلت آلهتها ورسلها في كل صقع يبشرون بروحها أمة هادية بالحق والخير والجمال: دعُوا سيوفكم، وابنوا وازرعوا ففي المعول سر الحضارة وفي السيف جنون البربرية.
بهذه الروح ركز سعادة إنسانه الجديد، نموذجاً لشعبنا وبواسطته للعالم، عندما رأى ان كل نهضة، مطلق نهضة عندنا لن تكون مصرية، ولا سعودية، ولا فارسية، ولا تركية، ولا قطرية، ولا فرنسية ولا روسية ولا أميركية أو انكليزية، وحتماً لن تكون صهيونية إسرائيلية يهودية، بل نهضتنا سورية قومية اجتماعية. لذلك ركز الزعيم المبدأ الإصلاحي الجليل "تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مبادئ الأمة السورية وتاريخها السياسي والثقافي والقومي". وعرض لنماذح من رجالات أمتنا، هي عينات فقط مما تزخر به بطون الكتب والتاريخ من عطاءاتنا، وربما ما كمن تحت الثرى من مآثرنا ما زال أعظم.
الجدة والأصالة معاً في عمل سعادة وإنسانه سمتان تقترنان في كل ما قدمه وفي اقترانهما الدائم سر ابتكار سعادة بلا منازع. قدم نفسه بجهاده مؤسساً وحيداً فريداً يكاد ما قدمه أن يكون متكاملاً بلا نقصان، رغم أنه أكد مراراً انه قدم منطلقات للفكر السوري وليس حتميات، قدّم قواعد عمل وليس نتائج مطلقة لها. وترك العقل السوري، كشرع أعلى للحياة والوجود، ان يستكمل، ولما استكمل بعد.
يتميز إنسان سعادة بقيمتين هامتين أيضاً هما الوعي والصراع. والوعي عند سعادة ليس هو نفسه عند أي فيلسوف آخر، هنري برغسون مثلاً، الوعي عند إنسان سعادة غائي هادف بنّاء قومي اجتماعي وليس فردياً، هو نهضوي، وعى موضوعه – قضيته وهو شخصية الأمة الموحدة، رغم تعدد مباضع التقسيم الديني والسياسي والمحلي والدولي والروحي والاجتماعي، كشف وحدة سورية الأرضية والنفسية والتاريخية والاقتصادية وأطلق الرد الاستراتيجي على كل ما يتهددها ليفعل فعله في الأجيال، فكل انتصار بعده استوحى روحه وعطاءه ومبادئه وغايته، وحيث لم يستوحَ إنسان سعادة كانت الهزيمة المذلة وكان السقوط.
هكذا الصراع يعزز وضوح الرؤيا في الوعي، فأعطى الوعي قيمة تنفيذية وقوة تأثير وتلازم بناء في عمارة امة جديدة ظنها اعداؤها انها انقرضت، كما قال المعلم. صارع سعادة الطائفية ليحرر الطائفيين منها، صارع الإقطاع لينقذ قطاعات واسعة من شعبنا من استغلاله، صارع السياسيين ليعلمهم أن ألاعيبهم لا تبني نهضة ولا تنقذ امة، بل هي مطية لعوب تركبها الإرادات الأجنبية والصهيونية لإذلالنا باتفاقات ذل وإذعان وحان الوقت لإعلان الإرادة السورية رفضَ كل إذعان فُرض على امتنا، فكان الحزب السوري القومي الاجتماعي "إرادة امة لا تردّ".
إما إذا أخطأ القوميون هنا وأصابوا هناك، فهذا شأن الحركات الاجتماعية التي قد تصيب وتخطئ، لكن هذا ليس مبرراً لاستمرار الفساد في الأوساط القومية لا بحكم النظام ولا بحكم الفوضى معاً، ولا لاستمرار الميعان والتسلط أيضاً، باسم الأشخاص أو التنظيمات، فالأفراد، مهما عظموا، يُكملون آجالهم ويرحلون، اما القضية باقية والمجتمع حصاد كثير لفعلة قليلين.
في عيد مولدك، أيها العظيم، تحية وفاء لك ولإنسانك في تسعينياتي، هي هي كما في عشرينياتي، معلماً وهادياً للأمة والناس.
والبحث عن إنسان جديد بقي واجباً على المتنورين في كل حقبة وفي غمرة كل محنة، بحث يتنكبه عارفون مهيأون ليقودوا حياتنا الثقافية ولينيروا سبل أمة لما تهتد إلى ذاتها بعد، إنما يلزمهم وضوح الرؤيا والتصفية من الاختلاط المتراكم في مزالق السياسة والإعلام والدعاية.
في مدى أول آذار 2014 ذكرى أنطون سعادة، مؤسس النهضة القومية الاجتماعية، يحضرني الزعيم، وهو لما يفارقني قط في حياتي، وبعد مراسم الترحيب والتهنئة، يعاتب المتسائلين طيلة ثمانية عقود سلفت، الذين لم يقروا بوضوح مهتدين إليه "معلماً وهادياً للأمة والناس".
قدّم سعادة في شخصه وفي جهاده القومي الاجتماعي بما فيه الفكري والسياسي والفلسفي والأخلاقي نسقاً جديداً بالكلية وأصيلاً في الوقت نفسه.
جِدّته تركزت في أنه هدم التراكم الغريب فوق قيمنا وروحنا وتاريخنا وحقيقتنا الذي شكل فسيفساء لامعة براقة لكنها مشوشة ومتخبطة من قيم فردية وفئوية وطائفية ووصولية انتهازية معيبة مَرْكَزت الفرد منطلقاً وغاية لإنسانها وحياته، يمكنها أن تقدم إنساناً فردياً ناجحاً مرتفعاً فوق بقايا الآخرين وأشلائهم وجراحهم فلا يهتم لما يعانون ولا يرتجف قلبه لأنينهم، بل يستغلهم ليربح ويبتزهم ليقوى.
أليس هذا النموذج الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي ما زال سائداً في شعبنا حتى اليوم، حيث لم تُنِر القومية الاجتماعية أرواح مواطنينا؟ حقاً. بينما سعادة ترك المهجر حيث له فيه رأسمال اجتماعي كبير أسسه له كبير الجالية السورية حينها والده المفكر والعالم والطبيب واللغوي خليل سعادة، وعاد بعد رحيله، لإنقاذ أمته، مبتدئاً من الصفر، بل من تحت الصفر، باحثاً عن ثلة من المؤمنين، أعاد مرات عدة الكرّة في البحث، ليعتمد رجالاً يمكنهم أن يحملوا رسالته الفريدة، وما استطاعوا كما ينبغي. واستمر يجمع من فسيفساء مجتمعنا الطائفية والسياسية وعقائدها المتضاربة المفككة مداميك نهضته حتى غدت "نهضة عز مثيلها في الشرق"، كما قال المرحوم كمال جنبلاط في استجوابه الحكومة اللبنانية في أيلول العام 1949 بعد الإعدام الجسدي لسعادة.
وأصالة نموذج سعادة، تركزت في انه لم يذهب إلى أي فلسفة جديدة يقتبس منها لبنات لعمارته الفكرية الفريدة، لا الفلسفات الشرقية من مانوية إلى غنوصية ولاوتسية وكونفوشيوسية وهندية، ولا الغربية من وجودية ومتعالية ومادية جدلية وروحية وأداتية وظاهراتية وتاريخانية وعقلية وكاثوليكية وبروتستنتية لهجت بالإصلاح فتخلفت. بل استمد روح نهضته من قيم التاريخ السوري، بما هو التاريخ سجل حياة سورية ونسق إبداعها العظيم، فناً وحرفاً وجمالاً وموسيقى وفكراً وديناً وعمارة وإنساناً متألهاً فوق العصور وبطولة سخرت من المعجزات فكانتها وإرادة نظمت كل شيء، طوعت الجبال، غيرت مجاري الأنهر، استصلحت الصحارى والبوادي، غزلت الخيوط ونسجت القماش جمالات، استطلعت الثرى عناقيد دهشة وأرسلت آلهتها ورسلها في كل صقع يبشرون بروحها أمة هادية بالحق والخير والجمال: دعُوا سيوفكم، وابنوا وازرعوا ففي المعول سر الحضارة وفي السيف جنون البربرية.
بهذه الروح ركز سعادة إنسانه الجديد، نموذجاً لشعبنا وبواسطته للعالم، عندما رأى ان كل نهضة، مطلق نهضة عندنا لن تكون مصرية، ولا سعودية، ولا فارسية، ولا تركية، ولا قطرية، ولا فرنسية ولا روسية ولا أميركية أو انكليزية، وحتماً لن تكون صهيونية إسرائيلية يهودية، بل نهضتنا سورية قومية اجتماعية. لذلك ركز الزعيم المبدأ الإصلاحي الجليل "تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مبادئ الأمة السورية وتاريخها السياسي والثقافي والقومي". وعرض لنماذح من رجالات أمتنا، هي عينات فقط مما تزخر به بطون الكتب والتاريخ من عطاءاتنا، وربما ما كمن تحت الثرى من مآثرنا ما زال أعظم.
الجدة والأصالة معاً في عمل سعادة وإنسانه سمتان تقترنان في كل ما قدمه وفي اقترانهما الدائم سر ابتكار سعادة بلا منازع. قدم نفسه بجهاده مؤسساً وحيداً فريداً يكاد ما قدمه أن يكون متكاملاً بلا نقصان، رغم أنه أكد مراراً انه قدم منطلقات للفكر السوري وليس حتميات، قدّم قواعد عمل وليس نتائج مطلقة لها. وترك العقل السوري، كشرع أعلى للحياة والوجود، ان يستكمل، ولما استكمل بعد.
يتميز إنسان سعادة بقيمتين هامتين أيضاً هما الوعي والصراع. والوعي عند سعادة ليس هو نفسه عند أي فيلسوف آخر، هنري برغسون مثلاً، الوعي عند إنسان سعادة غائي هادف بنّاء قومي اجتماعي وليس فردياً، هو نهضوي، وعى موضوعه – قضيته وهو شخصية الأمة الموحدة، رغم تعدد مباضع التقسيم الديني والسياسي والمحلي والدولي والروحي والاجتماعي، كشف وحدة سورية الأرضية والنفسية والتاريخية والاقتصادية وأطلق الرد الاستراتيجي على كل ما يتهددها ليفعل فعله في الأجيال، فكل انتصار بعده استوحى روحه وعطاءه ومبادئه وغايته، وحيث لم يستوحَ إنسان سعادة كانت الهزيمة المذلة وكان السقوط.
هكذا الصراع يعزز وضوح الرؤيا في الوعي، فأعطى الوعي قيمة تنفيذية وقوة تأثير وتلازم بناء في عمارة امة جديدة ظنها اعداؤها انها انقرضت، كما قال المعلم. صارع سعادة الطائفية ليحرر الطائفيين منها، صارع الإقطاع لينقذ قطاعات واسعة من شعبنا من استغلاله، صارع السياسيين ليعلمهم أن ألاعيبهم لا تبني نهضة ولا تنقذ امة، بل هي مطية لعوب تركبها الإرادات الأجنبية والصهيونية لإذلالنا باتفاقات ذل وإذعان وحان الوقت لإعلان الإرادة السورية رفضَ كل إذعان فُرض على امتنا، فكان الحزب السوري القومي الاجتماعي "إرادة امة لا تردّ".
إما إذا أخطأ القوميون هنا وأصابوا هناك، فهذا شأن الحركات الاجتماعية التي قد تصيب وتخطئ، لكن هذا ليس مبرراً لاستمرار الفساد في الأوساط القومية لا بحكم النظام ولا بحكم الفوضى معاً، ولا لاستمرار الميعان والتسلط أيضاً، باسم الأشخاص أو التنظيمات، فالأفراد، مهما عظموا، يُكملون آجالهم ويرحلون، اما القضية باقية والمجتمع حصاد كثير لفعلة قليلين.
في عيد مولدك، أيها العظيم، تحية وفاء لك ولإنسانك في تسعينياتي، هي هي كما في عشرينياتي، معلماً وهادياً للأمة والناس.