أكثر ما يخشاه الإسرائيليون وهم يرقبون مسار التحوّلات الجارية في العالم العربي، أن يعود الفلسطينيّون الى العمل وفق منطق الإنتفاضة الأولى أواخر الثمانينات. يومذاك استطاع شعب فلسطين أن يُبدع مقاومة عطَّلت الآلة العسكرية الضخمة لدولة الاحتلال، ووضعت قادتها أمام خيارات قلقة سياسية وأمنية شديدة الخطورة .
ومع أن القيادة الإسرائيلية انصرفت على مدى عقدين من الزمن الى إجرء عمليات إحتواء متعدّدة الانساق والتقنيات حيال الإنتفاضة، إلاّ أنّ المخاوف الإستراتيجية من استئناف المقاومتين المدنية والعسكرية بالتّزامن مع التصدعات الحاصلة في المحيط الإقليمي، تبدو الآن في ذروتها. والتّساؤل الذي يشغل مدارات التّفكير في إسرائيل اليوم، يجري في الإتجاه الذي يمكن أن يتوحد فيه فلسطينيو غزة والضفة، الى فلسطينيي أراضي 48 تحت شعار مركزي هو "شعب فلسطين يريد إنهاء الإحتلال"…
مثل هذا التوصيف، لا ينأى من الواقعية، على الرغم مما يمتلئ به الفضاء الفلسطيني من حجب تستدعي تشاؤم العقل أكثر من أي يوم مضى.
أما السؤال الذي يُتداول بزخم خاص في الوسط الفكري الإسرائيلي، فيتركّز على الخيارات الممكنة التي سوف تعتمدها دولة تقوم على خاصيّة الإستيطان والإحتلال، حيال شعب يريد خوض حرب إستنزاف طويلة الأمد بالصدور العارية؟
الخشية الإسرائيلية من مآل متوقع كهذا لا تتأتى من النظر الى ثورة حجارة متجددة بوصف كونها نسخة مكرّرة عن سابقاتها، بل في اندراجها ضمن سلسلة "جيولوجيات سياسية أمنية" اسقطت أنظمة وحكومات يعتبرها الإسرائيليون شريكا" استراتيجيّا" في أمنهم القومي والإقليمي. وما يضاعف من مثل هذه المخاوف هو الحضور الوازن لميراث الخسارات التي مرّت بها دولة إسرائيل في خلال العقدين المُنصرمين. لذا سنرى كيف أن التنظير الإسرائيلي المتشائم راح يتّكئ على جملة من الحقائق المعنوية والسوسيو-ثقافية، ستكون لها فعالية حاسمة في سياق البحث عن سبب الإخفاق في المواجهات المديدة مع الشعب الفلسطيني.
أساس هذا التنظير ينطلق من أطروحة مفادها "إن الضعفاء هم غالباً ما يكونون الأكثر عقلانية…" وبيان ذلك، – حسب عدد من المفكرين الإسرائيليّين – أن الضّعفاء، وهم يواجهون القوّة العاتية، يقيسون موازين القوى بمعايير أكثر دقة مما يقيس به المنتصرون…
مرّت معي وأنا أتابع سيرورة السجال حول الخوف الاسرائيلي من اليوم التالي، ما سبق وقاله قبل سنوات قليلة الجنرال الاسرائيلي المتقاعد فان كريفيلد في هذا الصّدد: "عندما كنا ضعفاء في الماضي- كنا عقلاء وجسورين فحقَّقنا الانتصار. لكن تحولات جذرية طرأت على الصراع لتصبح المعادلة مقلوبة تماماً. فلقد بدأت المشكلة في لبنان عندما باشرنا بقتال من هم أضعف منا. ومنذ ذلك الوقت ونحن نمضي من فشل إلى آخر"…
الخط الانحداري الذي بلغ مع حرب تموز 2006 مستويات اكثر عمقاً مما كان يتوقعه كثير من علماء المستقبليات في اسرائيل، اخذ يكمل مساره المدوِّي في اختبارات الحرب على غزة منذ العام 2009. لذا لن يكون مستغرباً حين ينبري جمعٌ من الباحثين الاسرائيليين الى القول: إذا استمرت الأمور على هذا النحو فسوف نصل إلى مرحلة تنهار فيها دولة «إسرائيل».
لدينا أيضاً مشهد آخر من الكلام الساري في فضاء التشاؤم. فلقد مضى الكاتب السياسي الإسرائيلي أهارون لبرون قبل سنوات ليطرح في كثير من المرارة التساؤل الحاد، عمّا إذا كانت إسرائيل هي حقاً لا تزال قوية على النحو الذي يجعلها صاحبة النّهي والأمر في محيطها. لكنه لما أجاب بأنَّ إسرائيل هي حقاً قوية من الناحية العسكرية، عاد واستدرك ليبيِّن بؤس هذه القوة ما دامت برأيه غير قابلة للاستعمال.
مثل هذا الشعور يجري التعامل معه الآن، كأحد أكثر الزوايا الحادة التي يجد فيها الإسرائيليون أنّهم أسرى جدرانها المغلقة. في الماضي القريب لم يكن ثمة مشكلة تطرح نفسها على هذا النحو. كانت القوة قابلة للاستخدام في أية لحظة ضد عرب الأراضي المحتلة العام 1967، وضد فلسطينيي 1948، ناهيك عن الحروب والمعارك الخاطفة التي اعتاد ان يشنّها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان. وليس من شك في أنَّ الوعي الإسرائيلي سيمتلئ على مدى أكثر من نصف قرن بحقيقة أنَّ لدى إسرائيل من القوة ما يمكنها من إحراز الانتصار بيسر نادر. وأنَّ مبدأ القوة واستعماله حين الضرورة – سواء كتدبير احترازي أوكقوة ردع في أي حرب محتملة- هو المبدأ الذي يستحيل على الدولة العبرية أن تتجاهله لو هي قررت البقاء في منطقة مملوءة بالأعداء. غير أنَّ هذه الحقيقة سوف تأخذ مساراً معاكساً على امتداد عقدين مَضَيا. ثمة قطاعات وازنة في المجتمع الإسرائيلي تلاحظ حقيقة رسّختها تجارب الحروب الماضية، وهي اللاَّجدوى من استخدام مناهج الحرب الكلاسيكية وتقنياتها. ولقد أعطت الانتفاضة الفلسطينية نماذج أكيدة على الشلل الذي يصيب الآلة العسكرية الإسرائيلية جراء استخدام سلاح شعبي لم تعتد إسرائيل على مواجهته منذ قيامها. ويعترف كثيرون من السياسيين والخبراء بواقع أن إسرائيل لم تُظهر أي استعداد حقيقي لمكافحة الانتفاضة فضلاً عن العمليات الفدائية داخل ما يسمى «الخط الأخضر»، أو على خطوط إمداد الجيش في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن الإسرائيليّين من يرى أن الإثبات البسيط لعدم كون إسرائيل قادرة على صناعة الزمن السياسي في المنطقة ، هو الحقيقة التي لم تعد تخفى على أحد: فشل منطق القوة في إنهاء مقاومات الشعب الفلسطيني بشكليها المدني والعسكري. فلو كانت إسرائيل لا تزال تملك حقيقة القوة، لاستطاعت كسب معركة استنزاف مروِّعة فرضت عليها فرضاً منذ الثمانينيات والى يومنا هذا.
أكثر من ذلك، فإنَّ من هؤلاء مَنْ وجد، أن من نتائج الانتفاضة أن استطاع الفلسطينيون، ولأول مرة، فرض إرادتهم على إسرائيل، وتالياً إجبارها -وإن بطريقة غير مكشوفة- على الانسحاب القسري من غزة، والتفكير بالأمر نفسه في الضفة الغربية.
ويعترف كثيرون منهم اليوم بأنَّ المعادين لإسرائيل اكتسبوا معارف سياسية وأمنية فائقة الخطورة، وتتمثَّل بظهور نقاط ضعفها على نحو بيّن . فما لا يُشك فيه أن السجال الإسرائيلي الحالي حول قوة وضعف إسرائيل بات يتوسع باستمرار. ومع هذا التوسُّع تراكمت نزعات التشكيك ضمن مسار دراماتيكي، راحت معه الدولة اليهودية تفتقد عوامل القوة التقليدية.
على أنّ التحول الجيو-استراتيجي الذي غير موازين المنطقة ومعادلاتها سوف يشكل مانعا" جديا" من التفكير في شن حرب تعيد التوازن والتماسك لمجتمعها السياسي والعسكري والمدني. والواضح أن أحد أبرز الأسباب المستدعية لمخاوف النخب العسكرية والسياسية والفكرية في اسرائيل هو الصَدَع الذي أصاب كتلتهم التاريخية.. في الماضي، كان التشكيك في عمل واداء القيادتين السياسية والعسكرية يُعتبر عاملاً مهماً في اعادة ترميم التصدعات ومناطق الخلل.. أما الآن فقد تعرضت ما يسمّى بـ "الغريزة القومية الجماعية" إلى ضرب من الاهتزاز بنتيجة المراجعات الذاتية، متزامنة مع نشوء مناخات عارمة توحي بنهاية تاريخ كامل من اقتدار الظاهرة الإسرائيلية.
واقع الحال أنَّ إسرائيل تعيش الآن على آثار مقولة الاحتلال التي بلغت حدّ الإشباع. فمفهوم التوسع، خارج ما يُسمَّى إسرائيل الصغرى، لم يعد حقيقة إيديولوجية قابلة للتنظير مثلما لم يعد حقيقة واقعية قابلة للتطبيق… بل يبدو أنه يتراجع إلى الداخل، معبِّراً عن نفسه بتصعيد لاعقلاني وغير مسبوق في حركة الاستيطان. ثم ليظهر مفهوم التوسع، وكأنه يولد على نشأة أخرى مؤدَّاها: استحالة عودة نظرية الإحتلال من خلال تقنيات الحروب الفائقة القدرة.
بعد الجيولوجيا السياسية الأمنية التي حلّت على الاقليم، بدت الصّورة الإسرائيلية تتموضع في مكان مفارق. ففي هذا التّموضع غير القابل للإستقرار في القريب المنظور .. لا يجد الإسرائيليون أنفسهم إلاّ أنهم أمام إختبار مرير مع شعب هو على يقين من قدر الغَلَبَة وإنهاء الإحتلال..