ألقيت أجزاء من هذه المحاضرة في اللقاء السنوي الخامس مع سعاده، في ضهور الشوير
مساءُ الخير، يا أهل الخير!
مساءُ الخير، يا أهل سعاده!
مساءُ الخير يا أهلي!
لا يغيظكم إن لم أتوجه إليكم بألقابِ السادةِ والسيدات، والمعالي والتشريفات، فمن يدخُلُ على أهله لا يحتاجُ إلى الكفوفِ البيضاء، … أو هكذا ظنَنتُ!
نحن هنا، في هذا المكانِ المبارك، على جبلِ سعاده، فصيرورتنا المساواة، وإن إنتفت المساواةُ من أماكن كثيرة من الوطنِ المهشم. كلنا سوريون في عينه وفي قلبه، فهل نفرق بين ما جمعتهُ محبتُه؟
كلنا هنا سوريون! لا سادة ولا عبيد!
وإلى أهلنا في بكفيا القريبة، نقولُ بكل محبة، أنتم أيضا سوريون! ألسنا وإياكم منبتَ الجبلِ الواحد؟ أليست مياهُ ينابيعكم من الثلج على ضهور مرحاتا؟ وأليس الضبابُ الصاعد إليها من تنهدات أولادكم وصلوات أمهاتكم؟
وإلى أهلنا في كسروان المُطِل، نقول بكل محبة، وأنتم أيضا فأنوار سمركم أبعدت كرب الليل وذكرتنا أن من عندكم جاء فؤاد الشمالي وحبيب كيروز.
وإلى أهلنا في حيفا ويافا، نقول بكل محبة، وأنتم أيضا فقد سمعنا من حناجركم نداءَ إسكندرونا!
شرفتموني بحضوركم، وشرفتني المؤسسة بدعوتها، وأكرمني رفيقنا المقدم بلطفه ولغته الشريفة، والشرف الأكبر أن أحدثكم عن الرجل الذي إستحوذ على سني شبابي ويسير معي همُهُ إلى درجات الكهولة.
لم يحذركم رفيقُنا المقدم، لكياسته، من لكنةٍ أعجميةٍ قد تنسابُ إلى اللسانِ بعد ثلاثين سنة في المهجر!
فإن فَعَلَت، فلا تعيروها شأنا أكثرَ من إبتسامةٍ عابرة، فالقلبُ، أؤكدُ لكم، سوريٌ سليم وإن عصته أحياناً العباراتُ الصحاح.
حديثي الليلة إليكم عن رجلِ الحق، صديقُ صنين وجبل الشيخ، وجبل الكرمل وجبل إنطاكية!
حديثي الليلة عن أمثولات دراسة حياته ودراسة فكره.
أقلُ واجباتنا نحو رجل الحق القومي أن نلهجَ بحقيقته، بصدقٍ، بمسؤوليةٍ، بإحترامٍ، فلا نلونُها أو نلويها، ولا نعلبُها أو نتلاعبُ بها.
بصدقٍ، بمسؤوليةٍ، بإحترامٍ، بجديةٍ وتقدير.
يكتب محررُ جريدة الإخاء الأرجنتينية غداة الإعدامِ اللئيمِ أن على أرحامِ النساءِ في سورية أن ترتاحَ لألف سنة حتى تلد شبيهَ أنطون سعاده!
لقد أغرى هذا القولُ الكثيرين من رفقائنا ومحبينا فإستعادوه ودونوه وأعادوا طبعه في كتبهم ومقالاتهم.
لكني أُصارحكم إني سعيد أن أرحامَ نساءِ سورية لم تسترح لأن في ذلك فناءُ الأمة، وبين شبيهٍ لسعاده وحياةُ الأمة نختارُ حياةَ الأمة!
وأرحامُ نساءِ سورية لم تسترح قبل إنجابِ سعاده لأن عطاءَ الأمة السورية لا يبدأ بسعاده ولا ينتهي بهِ، ومن يدعي غير ذلك لم يفهم كيف إختار سعاده أن يحيا لأجل سورية وأن يموت في سبيلها.
يقول الكاتب: يجب على أرحام نساء سورية أن ترتاح لألف سنة! هذا كلامُ ذل من رجلٍ ذليلٍ لا يعرف حقيقةَ رجل الحق.
أنسمع لمثل هذا الذليل وفي أمتنا إمرأةٌ إبتنت لها قبل عقدين من عودة سعاده الأولى، عرزالاً على هذه التلال أسمته كوخَها الأخضر ومنه كان شعشعانُ فكرٍ وأدب. وقد حولت مي زيادة عرزالَها البسيط المتواضع الذي بناه لها أهلُ الشوير في ضهور مرحاتا سنة 1911 إلى صرحِ فكرٍ وخيالٍ ومعرفةٍ وإبداع.
إن في هذه الأمة عادة مستعصية، كل عرزال مدرسة فكر وطود نبوغ! أسرعوا وإبتنوا لكم عرازيلَ تكللُ التلالَ فهي أنجعُ من جامعات المستعمرين!
أنسمع لمثل هذا الذليل وفي أمتنا إمرأة عانت في حداثتها ويل الحرب العالمية الأولى مثلما عانى سعاده، وحملتها الأقدارُ مثلما حملته إلى مهجرٍ مؤلمٍ عانت فيه الإنقطاع عن الوجدانِ القومي الأكبر، وكانت رغم ذلك ضياءَه في ظلمةِ منفاه، وسندَه في جهادِ عودته، ونبراسَ ذكراه بعد رحيله الموجع، وأمينةً أولى على قضيته.
أتحتاجُ الأرحامُ أن ترتاح وقد أنجبت مباركة مثل جولييت المير؟!
تناولت هذا القول لأمثل لكم حالة الوهم بالحقيقة وتراكب العفن الفكري البراق، ولأمثل لكم ضرورة الجدية والمسؤولية في الكلام عن رجل الحق.
في رحلتي مع الرجل العظيم مررت بوديان وقمم. فلنبدأ من الوديان لأنه جميل أن ننتهي عند القمم!
في هذه السنين الطوال، درست كل ما توفر لي من الكتابات عنه في الكتب والدوريات. وكلما قرأت ما قاله الآخرون وما قلته أنا في شبابي، كلما شعرت أنني أفقده وأفقد حقيقته. لكأن كل مقال عنه حجاب يلقى على حقيقته وساتر يرتفع دون نوره. قولناه ما في أنفسنا من ليبرالية إلى ماركسية، ومن واقع لبناني إلى ما يستحيل عليه قوله عن أرومة أرامية عروبية دهرية وغير ذلك من الرصف الكلامي المختال!
كتاباتنا عنه منها الغث ومنها السمين، منها المتحرك ومنها البدين، البسيط والغليظ، والسخيف والمخيف.
فلو أخذنا هذه الكتابات، كتاباتنا جميعا، وأزلنا عنها رواسب بديهيات الزمان والمكان، وأخبار العشيرة والأعمام، والمدرسة الأولى والصديقة الأولى والوظيفة الأولى، وأزلنا المواعظ والحكم المنقولة ودروس الحياة المستقاة، وإن أزلنا الصفحات الصفحات من الطعن واللعن، ومن المدح والقدح، ومن التربيت على الأكتاف وحكايات بطولاتنا الشخصية وهواجسنا الفردية.
إن أزلنا كل هذه، ماذا يبقى بين أيدينا؟
يبقى سؤال أليم: رافقنا، أو رافق بعضنا، هذا الرجل الكبير لساعة، ليوم، لأسبوع، لشهر، لسنة، لعقد من السنين، وهذا كل ما إستطعنا أن نترك ميراثا لجيل التاسع من تموز؟
ولو! ألا نخجل وألا يخجلون!
مضينا إلى النبع الدافق وعدنا بجرار مكسورة!
نعملق الأمر العادي البديهي فعندما نصل إلى العمل الفريد الفذ تكون التكبيرات قد إستنفذت أبعادها وصغرت وذبلت:
– حمل أخته إلى الطبيب، يقولون، أي أخ برعمت في قلبه طيبة النفس السورية لا يفعل ذلك ويا عيبه إن لم يفعل!
– أنزل العلم العثماني بعد إنسحاب جيس بني عثمان، يقولون. كم من هذه الأعلام نزع في الثغور والمدائن!
– بدأ يعمل للإرتزاق في السادسة عشر من عمره، يقولون. وأين العجب وذلك شأن غالبية أترابه وبنات خاله.
– بدأ العمل كمراقب في شركة خطوط حديدية، يقولون، "معرضا نفسه لتقلبات الطقس والبرد القارس وصعوبات الخدمة ونظامها القاسي الشديد". لكن عمل المراقبة يا رفيقي عمل شبه مكتبي وسعاده بلغ بلدة خاله في منتصف الربيع وغادرها مع نهاية الخريف. فأين البرد القارس. وهل نظام الحضور في الوقت المعين إلى العمل نظام قاس وشديد! في أي وهم تحيا يا رفيقي!
– أخذ يصف مقاله على منضد الحروف دون مسودة مكتوبة، يقولون! أسمعتم بالآلة الكاتبة والحاسوب!
أمام هذه الأمثلة علينا أن نسأل: إن أذهلتنا البديهيات فما نوعية مقاييسنا وتجارب حياتنا ومؤهلاتنا الشخصية؟
أبهذه البديهيات نقدم رجل الحق إلى الأمة. ألا نخشى أن يذكرنا أحد بشاعر أمير حلب:
وتعظم في عين الصغير صغارها…
ألا نستحي ويستحون!
يقول لنا واحد أنه ولد في غياب والده في مصر فقام جده بتسميته على نفسه! ولد أنطون الحفيد في آذار، وتوفي أنطون الجد في كانون الأول من السنة السابقة، فكيف أتى الأمر العجيب!
لقد جرى الدكتور سعاده على عادة تسمية أولاده بأسماء غربية: أرنست، آرثر وما شابه. وقد شذ عن هذه القاعدة مرتين وفي الحالتين بعد وفاة قريب حبيب. المرة الأولى وفاة الجد أعطت الحفيد إسمه. المرة الثانية حين توفي أخ الدكتور سعاده سليم، فكان أن سمى الدكتور إبنه على إسم الأخ الراحل وأهدى كتابه حول السل الرئوي لذلك الأخ وكلل الكتاب برسم الأخ ذاك. وبعد ذلك عاد الدكتور سعاده إلى نهج التسمية الأجنبية مع إدوراد وغريس.
ويقول لنا واحد أنه بدأ العمل كمراقب في سكة الحديد يوم الأول من آذار، لكن سعاده لم يصل إلى الولايات المتحدة حتى نيسان فكيف يقاسي نظام العمل الشديد قبل أن يركب الباخرة التي سوف تقله إلى بلاد تلك الشركة!
ونحاول سبك إستثناءات طفيفة في وهم التعظيم.
لم يدعي سعاده يوما أن ما عاناه من ويل الحرب العالمية الأولى أمر إنفرد به عن أقرانه. قال ما الذي جلب على شعبي هذا الويل، ليس ما جلبه علي. فعندما دفعه الفقر والجوع إلى مخيم برمانا صحب بالإضافة إلى أخوته ثمانين طفلا من الشوير منهم طفلتين من عائلتي. فمعاناته معاناة مشتركة، لكن فرادته هي في ما قادته تلك المعاناة إلى إبتكاره لإنقاذ الأمة.
ولا علاقة لذلك المخيم الإنقاذي بمدرسة الفرندز كما يدعون. هو مخيم أقامه دكتور إنكليزي بمعاونة الصليب الأحمر الأميركي.
كانت المهمة الأولى في ذلك المخيم البقاء على قيد الحياة. أما أن يقول أحدهم: ودرجة تحصيله في مدرسة الفرندز في برمانا حيث كان يدرس إثناء الحرب تعادل درجة الكفاءة، مع فارق أن الدروس التي كانت تعطى لصف الكفاءة في تلك الأيام من علوم وتاريخ ولغات عربية وفرنسية وإنكليزية وجبر وهندسة وآداب عربية وغيرها، كانت أوسع وأعمق منها اليوم. ولعلها تعادل حاليا الدروس التي تعطى في صف البكالوريا أو تفوقها".
ونعجب أنه لم يضيف الطب والزراعة وعلوم الهلك والفلك وبواطن النجوم.
أن يقول أحدهم مثل هذا الكلام فجهل لحيثيات الزمان وخرق لسنة النشوء الإرتقاء الواجبة الإحترام. الدروس التكميلية (إن سلمنا أنها حصلت) في ظل شبح الموت والجوع، توازي الدرجة الثانوية بل الجامعية – أمعقول هذا الهفت؟ فلماذا لا نرجع بأولادنا إلى هاتيك العصور لنتقدم إلى الوراء! لو سلمنا أن الكاتب أراد أن يعظم ثقافة سعاده الرسمية ألم يفهم أنه بذلك يقلل من مآتي دراسة سعاده على نفسه وأن لعمله نتيجة معكوسة؟
ونبتدع لأنفسنا الألقاب والرتب فيسمي أحدنا نفسه تكرارا نائباً للزعيم ويصمت الآخرون حيرةً أو تصديقا أو عجباً أو سخرية. لقد عين سعاده نائباً له، على ما نعلم، في فترات الأسر الثلاث حصرا، فإختار صلاح لبكي مرتين وفخري معلوف في المرة الثالثة، وهذه جميعها موثقة. فمن أين جاءت رتبة الكاتب وفي أي ظرف ولماذا يعوز الدليل؟
ويدعي أحدنا أن سعاده تابع في سجنه البرازيلي الكتابة لصحيفة سورية الجديدة الأسبوعية، ويعين لنا الكاتب بالتحديد الواثق والإعلان الصريح الصارم تلك المقالات الجليلات وينحو بالائمة على رفقاء أهملوا إدراجها في مجموعات أعمال سعاده. ونحن الجائعون إلى فكر المعلم، ألا يجب أن نفرح ونهلل ونعلن رفيقنا بطلاً للفكر والكشف!
مهلاً أيها الفرح! كان سعاده في البرازيل قيد توقيف شبه عرفي، في سجن إنفرادي، على أساس مرسوم جمهوري لقمع أعمال الدعاوة للدول الأجنبية، وقد منعت عنه الزيارات حتى من ممثلي نقابة الصحافة البرازيلية أو المحامين، ومنعت عنه حتى أبسط حاجات السجين من وقت في الهواء الطلق والعناية الطبية. لكنه وفق رفيقنا أرسل مقالات جليلات إلى الصحيفة التي أسسها قبل بضعة أسابيع والتي لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الإعتقال خشية ملاحقة السلطة البرازيلية؟
نقد ضعيف مهلهل، تقولون! لا بد أن المعلم وجد وسيلة إلى ذلك.
لكن ما قولكم إن وجدنا في رسائل سعاده كلاماً عن تلك المقالات الجليلات يعلنها نموذجاً للإنحراف الفكري الذي ظهر في الصحيفة خلال أسره؟ أبهذا الإستخفاف نعين مكنونات الفكر السعادي؟ أم أن نشوة الإكتشاف المنفرد المظفر تبرر الإعلان المستبد؟
فإن كان هذا شأننا، شأن من نسبوا أنفسهم إليه فماذا ننتظر من معارضيه؟
يقول خريجو مدرسة الكسل الفكري أن سعاده إستقى فكرة القومية السورية من كتابات الأب لامنس اليسوعي وخصيصا كتاب هذا الأخير الموسوم خلاصة تاريخ سورية!
لننظر قليلا في هذا السخف الباهر: كان كتاب لامنس الصادر في أوائل العشرينات، ملخص محاضرات ألقاها الأب اليسوعي على طاقم الإنتداب الفرنسيين بطلب من الجنرال غورو وبتوجيه من سياسته. أي أن كتاب لامنس يشكل إحدى وجهات الدعاية السياسية الإستعمارية الفرنسية المتلونة المؤيدة حينا للوحدة السورية، إن قاد ذلك إلى توسيع إطار إنتدابها على حساب بريطانيا، والمؤيدة حينا آخر للتقسيمات الإدارية الدينية والإتنية متى كان ذلك يثبت أركان نفوذها.
ففي نسبة إتجاه سعاده نحو القومية السورية إلى تأثير الأب اليسوعي لؤم فكري معيب ودساس.
فلننظر في الحقيقة التاريخية: سعاده الفتى في فترة صدور كتاب لامنس نزيل البرازيل، يتدرب في فكره القومي على يدي والده الدكتور خليل، المناهض الأقصى في المهجر للإحتلال الفرنسي لسورية، المرسل صواعقه السياسية بإتجاه الإنتداب وأصحابه، الملقب الجنرال غورو بغورو باشا الغازي، على طراز العثمانيين الفاتحين، الواصف الفرنسيين بأتراك أوروبا موازاة في الغشم القاهر لأتراك آسيا. الإبن المتدرب على يدي هكذا أب، أيحتاج أن يستمد الفكرة السورية من بوق الدعاية الإستعمارية الفرنسية!؟
كم هي جميلة مآتي مدرسة الكسل الفكري! أنعزو سورية مي زيادة إلى لامرتين؟ وسورية يعقوب صروف وفارس نمر إلى الدكتور فانديك؟ ولعل سورية جبران والريحاني قامت على أيدي ماري هاسكل وشارلوت تلر؟
يقولون كان الرجل مستبداً إنفرد في الأمر والنهي!
لكن تعالوا ننظر كيف إستبد القوميون بزعيمهم الذي لم يكلف نفسا أو نفوساً مجموعة نصف ما كلف ذاته وأمينته! إنظروا كيف إستبد القوميون بزعيمهم في حياته ولا نطرق إستبدادنا به بعد إستشهاده!
مثل واحد يكفي:
"لا يجوز للزعيم أن يتزوج"، قالوا عندما أعلن خطبته إلى جولييت المير، "عليه أن يقف نفسه لسورية، فهو إن تزوج أصبح رجلاً عاديا لا يصلح للقيادة!"
هل سمعتم بأعتداء على أبسط الحقوق الإنسانية أشنع من هذا الكلام وهذا الموقف؟
نعم، كان الرجل مستبداً لأنه يبدو لي أنه في بعض الأحيان إنفرد وحيداً يصون المبادئ الشريفة التي تكرم الحياة.
نعم، كان مستبداً لأنه أبى على نسر الزعامة السير في الوحول أو معاشرة الزرازير.
أهو المستبد أم نحن؟
طفيليات فكرية، وكسل منهجي، وقصص الموقد والفانوس هي بعض من إستبدادنا به.
عجب كثيرون من معلومات أدرجتها في المجلدين الأولين من سيرة سعاده لدرجة عدم التصديق والإمتعاض. من أين أتى هذا الكاتب بهذه الأخبار ليتحدى بها ما إرتحنا إليه من تصوراتنا عن سعاده ووالده؟ كيف تختفي فجأة عدة كتب من نسبها إلى الدكتور سعاده وأين القصص الأليفة عن فتوة سعاده الإبن؟
السؤال الأمرُّ هو لماذا لم تختفي من قبل؟
وأسأل نفسي: هذه الحيثيات كانت دوما متوفرة فلماذا لم ينظمها قبل اليوم أحد؟ المكتبات والسجلات والمراسلات والمرويات في مستطاع الجميع وتمر ستون سنة ولا من عمل رصين؟
قلت في مستطاع الجميع مع إستثناء ما حجب عن الناس وعني لخشية سوء إستعمال أو لغيرة فائقة أو أنانية دفينة.
لكن الرجل الكبير فرض حقيقته على هذا الوجود!
فما سر ثباته؟ ما سر هذا التلازم الواثق المحكم بين عناصر فكره؟
إنه في طمأنينته الفلسفية أنه عرف الحق والحقيقة.
إنه في طمأنينته الفلسفية الناتجة عن تأمله الطويل ودرسه العميم وصراعه الحثيث.
إنه في الصفاء الفلسفي الذي يميز فكره.
هذه الطمأنينة الفلسفية والصفاء الفكري اللذين يتمثلان في المواقف المبدئية الجلية حول شؤون الأمة والوطن، وحول شؤون حياة الأمة ونهضتها.
لننظر في بعض الأمثلة.
إلى الجنوب من هنا في الثغر، في بيروت، يتحاورون حول الحق النسوي، الحق بالعمل، الحق بالإرث، الحق بالهوية، الحق بالكرامة وبرفع العدوان الذكوري ضمن العائلة وخارجها.
نحن نسأل: هل يتساوى حق سناء في الشهادة مع حق وجدي؟
فإذا كان الجواب نعم، فلماذا لا يتساويان في كل الحقوق، في حق الإرث وحق العمل وحق الهوية وحق الحرية وحق العدل؟ أنساويهما في الحق الأقصى ولا نساويهما في الما دون؟ فلا يعجب الباحثون إن لم يجدوا في تراث سعاده كلاما عن حق المرأة فليس في تراثه كلام عن حق الرجل كرجل.
هو يقول بحقوق السوريين بالجمع، وما جمع المذكر إلا صيغة لغوية ولو وفى جمع المؤنث بالمعنى والتقليد لقال به!
إلى الجنوب من هنا، في الثغر، في بيروت، يتشاتمون حول حق المشردين الفلسطينيين في العيش الشريف وفي الحقوق الإنسانية البديهية الأساسية من الكرامة الشخصية وحق العمل وحق الحماية القانونية. ويثيرون مسألة "التوطين" لكأنها غول مخيف يبتلع الأطفال والأرزاق. ويتحججون، يا لحميتهم المخلصة، أن في التوطين في سفح هذا الجبل خسارة للحق في العودة! لقد حموا هذا الحق، يا لإخلاصهم، لأكثر من ستين عاما فلم يفد في العودة لكنه أفاد في إستمرارية البؤس واللوعة.
أليس من العار أننا قبلنا أن يولد طفل واحد في مخيمات التشريد، وأن تنمو أجيال وأجيال في ظلم الغربة المستعصية؟! ألا يكفي ما سلبهم اليهود فهل شأننا أن نضيف فوق النكبة نكبات! ألم يعلمنا أن سورية للسوريين جميعهم بدون إستثناءات إقليمية وتفضيلات مذهبية، وأن الوطن ملك عام فلا يكون السوري شريدا في وطنه أكثر من حين طارئ.
الصفاء الفلسفي والطمأنينة إلى الحقيقة الفلسفية تتمثلان في وضوح الحكمة وشعشعان العقل النافذ:
إلى الشرق من هنا يتباحثون في الحريات والإصلاح!
جواب فكره على كل التساؤلات حول مسائل القمع والرقابة والكبت الثقافي واضح – مشكلة الحرية تحل بالحرية!
لتخرج كل الأفكار والعقائد إلى ساحة النور لتعرف منها الحرباء من الطير المغرد،
لتخرج إلى ساحة النور من أسودها إلى أبهاها، من أرذلها إلى أسماها،
أيحتاج الفكر النير إلى مقصلة تحميه؟
أيخاف أبناء النور من الفضاء الفسيح؟
ألم يعلمنا أن الدولة هي جمعية الشعب الكبرى وأن للمواطن الحق في إبداء الرأي في مصير جمعيته الكبرى ومن يمنعه من هذا الحق يتمرد على سيادته؟
وإذا كانت الدولة جمعية الشعب الكبرى فالأحرى بالشعب أن لا يدمر جمعيته ويعي مسؤوليته عن خيره الذاتي ودم قومه!
الدولة هي جمعية الشعب الكبرى، لكنها ليست جمعية المرتزقة!
إن إستفحال شر المذهبية الدينية لا يقاوم بالإختراعات اللاهوتية أو الكلام المعسول والمغسول عن التعايش – الذئاب والضباع تتعايش إلى حين! جميل أن تتناغم المآذن والنواقيس في أحلام لطاف الأدباء.
لكن المصير القومي يحتاج إلى درع مبادئ حصينة، مبادئ إصلاحية ثلاث عبرت عن رؤية تامة متكاملة لمكان الدين والمذاهب في الهيئة الإجتماعية. أنتساهل بها إن نطق رجل دين خيراً في السياسة؟ وماذا نفعل إن نطق آخر شراً؟
والطمأنينة الفلسفية تنتج شجاعة في الوقت العصيب وهدوء أعصاب وثبات قيادة في زمن الزعازع، فهي لا تنحصر في الفكر بل تشمل الممارسة.
لننظر كيف إنتزع أفراد النخبة التأسيسية لحزبه من براثن القوى المعطلة. الأعضاء الأول من الجامعة الأميركية في بيروت. هل من قوة معطلة للحس القومي تفوق هذه المؤسسة الإستعمارية بإمتياز؟ لكن من براثنها إنتزع رفقاء أول!
وأعضاء أول من خريجي مدرسة الحقوق اليسوعية – وهل من قوة معطلة للحس القومي تفوق هذه المؤسسة الإستعمارية بإمتياز التي خرّجت أئمة الرجعة وقيادييها؟ لكن من براثنها إنتزع رفقاء أول!
وأعضاء أول من مدرسي المقاصد الإسلامية، ومن أبناء أعيان الإقتصاد البيروتي، ومن سلك أمن دولة الإنتداب وغيرهم وغيرهم…
العمل التأسيسي عبر إنتزاع نخبة قيادية – أو هكذا ظنَّ – من براثن الإتجاهات العدمية.
لم يقف في جمع من عشيرته أو طائفته ويقول الأمر لي! بل وقف في عرين الرجعيات والإستعماريين وقال هؤلاء رفقائي فإرفعوا أيديكم عن الشباب السوري فهو لي ولسورية!
إن بروز فرادة سعاده القيادية عملية تاريخية باهرة في معانيها ودروسها وفي تحدياتها وإنتصاراتها وإنكساراتها، فلنتحاشى الإسقاطات الدينية والوحي المكتمل من لوح مسطور – إن عملية الصقل القيادي والمعرفي والفكري للحركة القومية لم تتوقف في حياة سعاده لأنه من حق سورية عليه وعلينا أن يكون لها دائما أفضل ما نستطيع!
لكن في دربنا مع هذه الطمأنينة الفلسفية والصفاء الفكري تحديات لعل أكثرها صعوبة عبارة "كلنا مسلمون" التي تحيرني! يقول "ليس لنا من عدو يقاتلنا في حقنا وديننا ووطننا إلا اليهود". في حقنا فهمنا، في وطننا سلمنا، لكن في ديننا؟ أي دين هذا؟ أيتحدث هنا عن دين القومية الجامعة من قوله في الكورة في الثلاثينات أن هذه الأرض عرفت أديانا هابطة من السماء إلى الأرض أما اليوم فتشهد دينا جديدا صاعدا من الأرض إلى السماء. فإن كان كذلك زال العجب.
لكن هذا الحل الطبيعي لا يرضي النظر النقدي. لأنه في كلام لاحق يعلن أن الإسلام قد جمعنا وأيد كوننا أمة واحدة فمنا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالإنجيل ومنا من أسلم بالحكمة! ترى ماذا حل بالذين أسلموا بالتوراة إذا أردنا أن نتبع النص القرآني، وما هو مكان الملاحدة من السوريين فهل ينتفي إنتماؤهم إلى الأمة التي جمعها الإسلام؟ وكيف نوازن هذا الكلام مع معنى الأمة وصفتها والدقة الباهرة التي بها حددها في نشوء الأمم؟
ولكأن هذه التحديات لا تكفي حتى يقوم رفيق لنا يدعونا ألى تنكب مسؤولية التوسع اللاهوتي في هذه الوحدانية الإسلامية! ونسأل هذا الرفيق ماذا حل بفصل الدين عن الدولة إذا تنكبنا هذه المهمة اللاهوتية؟ أن فصل الدين عن الدولة هو أيضا فصل للدولة عن الدين.
ومنذ الخمسينات ونحن نهرق الحبر حول المثالب التاريخية لليهود ويمضي كتابنا الشهور في تدبيج التحليلات التاريخية الأنتروبولوجية.
لكننا بدلا من إهراق الحبر وإرهاق الفكر في هذه المسائل، علينا أن نعود إلى الصفاء الفكري والطمأنينة الفلسفية في معالجة شؤون الأمة والوطن، أن نعود إلى مبدأ أن سورية للسوريين وليست لليهود أو غيرهم، وأن الأمة السورية مجتمع واحد وليس خليط متعايش من القنافذ.
نحنا لسنا في حرب دينية مع أهل الطوطم! ما همنا ما عبدوا أكان هشيماً مشتعلاً أو عجلاً مذهباً! ليعبدوا ما شاؤوا فلا شأن لنا بهم ما أن يغادروا أرضنا.
وقد يقول أحدهم أن هناك ثوابت لؤم تاريخي في ذلك الشعب تملأ صفحات كتبه الدينية وأن في تلك الكتب دروس جليلة.
أنحتاج أن نعود إلى كتاب الزبور وأمامنا دير ياسين وقانا وغزة؟! أليس الدمُ المسفوك أقوى حجةً من الحبرِ المهترئ!
يريد اليهود القدس عاصمة أبدية لدولتهم!
ويقوم بيننا من يزايد عليهم مدعيا أحقية دينية مخالفة، وتتيه مسألة الحق القومي بين الأحقيات الدينية وتداخلات الأوقاف، ومن له مرقد قس أو شيخ أو حاخام.
يريد اليهود القدس، ونحن نريد حيفا ويافا وعكا وعسقلان، نريد الناصرة وتلال الجليل وبيسان ، والقدس أيضا وبيت لحم! ليس لدلالة دينية بل لإنتسابها إلى الوطن. نحن لا نفاضل دينيا بين مدننا وبقاعنا، كلها في المنظار القومي واحد. ألم تغن فيروز لبيسان مثلما غنت للقدس!
يا أهل الخير،
ما حدثتكم بجديد بل بما يعتمل في نفوسكم ويتحرك في وجدانكم، إن أصبت.
وإن زاغ المراد فربما لأننا سرنا في زمانين مختلفين، أنا في زمن المهجر والكتب وأنتم في زمن الحياة المتحرك.
لا أخفيكم أن بعضنا يشعر بغربة فكرية وأدبية عندما ننظر إلى المكتبة الحزبية في كتبها ودورياتها ونجد إحتفالا بأمير إرسلاني وتقريظا لشعر قروي. نستفقد لغة ربينا عليها ومفاهيم شببنا نلهج بها!
أجل، أنا من المؤمنين بسنة النشؤ والإرتقاء فلا تخشو ترددا في قبول الأفضل والأجود.
أجل، أنا من المؤمنين بسنة النشؤ والإرتقاء لكني أستفقدها لأهتف لها!
واجبنا نحو رجل الحق هو الحقيقة، بجدية، بمسؤولية، بإحترام وتقدير.
فيا أهل الخير،
إفتحوا قلوبَكُم لرجلِ الحقِ لِتَحيا به ولِيَحيا بها سعاده.
يا أهل الخير،
سَلِمَت قلوبُكُم فَبِها تحيا سوريا.
وبتحية سورية تنتهي كلمتي فلنتحاور قليلا.