أنا المرأة الفاجعة
أنا الأمُّ التي قتلتْ أبناءَها إذ أنجبتهُم.
أنا أُمُّهُم حين جاء المخاضُ
وأمُّ عيونِهمُ الناعسة
حين شمُّوا حليبي
وناموا عليَّ بلا قلقٍ من جفاف العروقْ.
أنا أمُّهُم حين نام المكانُ
وأشعلني حسُّ أمي البعيدة:
غداً لن تخافي من الوحدة الغارقة
حين يصير الكلام بلا أي معنىً سوى
أن يُنادَى عليكِ بلفظ المحبة،
سوى أن تكوني براحَ الأيادي الصغيرة
وأرض البكاء الصغير.
غداً تصحَبينَ وحوش الحكايا إلى غرفة النومِ
حين يدقُّ السهادُ شبابيكَ ليلَتِهِم في الأسِرَّة،
غداً تربِطينَ لذيلِ الحصانِ فراشةَ ضوء،
غداً تركضين وراء الضفادع في كلِّ عينٍ،
غداً لن تموتي كثيراً
لأن الأمومة معجونةٌ بدماء الحياة.
أنا المرأة القابضة
على جمرة الأرض.
سقطتُ عن الجبل المستريحِ
وكسَّرتُ عظمي
حين رأيتُ سواد الحروب يخيّم فوق الطريق القديم.
تذكّرتُ أمي
وكيف أتاح لها عمرها أن تراني عروساً
بثوب البياض،
وكيف تخلّتْ عن الحظ في حذوة الخيل:
ستنفعُ، إن ما وضعتِ لها عنقها في الجدار،
أنا يا ابنتي نام حظي على طرف البئر، إني أراه.
أنا المرأة الواقفة
على درج الموت في زحمة الموت.
لا شيء يوقف هذا الجنون،
ولا شيء يسنِدُني في الترنّح،
لا بئر يُسقِطُني في يديه،
ولا ماء يغسلني من ذنوبي.
تذكَّرتُ أمي
وكيف احتمينا على حِجرها في حروبٍ بعيدة،
حتى اعتقدتُ بأن النجاة ستفتحُ باب الحياة لنا الآن،
وحتى اعتقدتُ بأني سأختارُ لون الزنابق في عرس ابني.
أنا المرأة الراجفة
أوسّع حضني ليحمل أبناء قلبي معاً.
أنا أمُّهم حين جاء المساء
وحاوطتُهُم تحت ظل الجدار الأخير،
أنا أمُّهم حين خافوا عليَّ
ولم يفهموا حكمة القنبلة،
أنا أمُّهم حين نادوا عليَّ:
يا أمَّنا لن نموتَ هنا،
يا أمَّنا دثّرينا بصوت الأغاني
وكوني يد الله في المعركة،
يا أمَّنا
أعيري يدينا جناح السنونو
لنصعد فوق الجدار الذي سوف يسقط.
أنا أمُّهم
حين خافوا كثيراً، وحين استطعتُ الغناء لأنسى القَتَلة،
أنا أمُّهم حين ماتوا معاً:
يا أمَّنا لا تخافي علينا
ولا تنظري صوب أشلائنا في المكان،
يا أمَّنا
لا تموتي على جرحنا في الغروب،
لنا أخوةٌ آخرون لكي تلديهِم،
لنا قبرُنا كي تغسليه بماء البنفسج.
أنا أمُّهم
حين سالتْ دماء الملاك عليَّ،
وأمُّ العيون التي نامت الآن رغم الضجيجْ.
أنا الفاقة، العاقر، أخت الذكورة
لا رحم لي.
رأيتُ صنيعي وما قدَّمتهُ يدايَ
رأيت أنانيَّتي في الظلال تحدّقُ بي،
لم أستمع لهواجس قلبي:
لا تحبَلي! هذي الحياة تسيلُ دماً
وتقتل أبناءَها في الظلام،
لا تلدي موتَهم لتعيشي.
أنا المرأة الفاجعة
أنا الأم التي قتلت أبناءَها إذ أنجبتهُم!
نبذة عن هلا الشروف – مواليد 1978.
مؤلفاتها:
– المجموعة الشعرية الأولى – "سأتبع غيما" – دار الآداب .
– المجموعة الشعرية الثانية – "لم أقطع النهر " – دار الأهلية.