قبل أربعة وثلاثين عاماً، انهال ريام الأندروميدي ضرباً ولكماً ورفساً على جنرال أميركي في قوات المارينز، عند الحافة المركزية لمحطة قطارات فرانكفورت باتجاه باريس. ثم أمسك ريام بزجاجة النبيذ الفرنسي الأحمر الفاخرة سلاحاً بوجه المرافقين للجنرال الأميركي المذعورين من هذا الهجوم الذي لم يكن في الحسبان.
هرول المرافقون للجنرال هاربين يطلبون النجدة. عندئذ كسر ريام الزجاجة النبيذية بالعتبة الإسمنتية للصعود إلى القطار، فتراكض الحراس صوبه مندهشين. قفز ريام من الحافة الإسمنية إلى أرض السكة الحديدة ووقف بوجه قطار فرانكفورت – باريس رافعاً قنينة النبيذ المكسورة سلاحاً بوجه قطار التاريخ الرأسمالي الإمبريالي المتوحش. توقفت حركة القطارات في سائر أرجاء أوروبا. أراد ريام أن يوقف سير قطار الرأسمالية المتوحشة إلى خراب هذا الكوكب ودماره. لكن الجنود الأميركيين والألمان هرولوا باتجاه ريام غاضبين وانهالوا بالهراوات على رأسه ضرباً عنيفاً تواكبه الشتائم والمسبات. بقي ريام واقفاً راسخاً كجبال أرز لبنان. اقتادوه مغلولاً بالأصفاد الحديدة إلى سجن مخفر المحطة الفرانكفورتية. سألوه عمن دفعه إلى فعل ما فعل. أجابهم: – رودي دوتشكه الذي فجر الثورة الطلابية العام 1968 في مهدها في برلين، اغتاله البوليس الألماني في غلفرت شتراسة 45.
ارتعب رجال البوليس في محطة فرانكفورت من هذا التصريح وأفرجوا عن ريام وأطلقوا سراحه خائفين وطلبوا منه مرتعبين أن يقلل من شرب النبيذ الأحمر. غادر ريام مخفر المحطة واتجه إلى مطار فرانكفورت. كان في محفظة جيبه ثلاثة آلاف مارك غربي منحتها له جامعة برلين الغربية الحرة. دخل ريام إلى مطار فرانكفورت وسأل عن موقع شركة طيران الميدل إيست في المطار أجابه أحد الحراس: – ولماذا تسأل عن شركة طيران الميدل إيست؟ أجاب ريام
– أنا لبناني وسأبقى فخوراً بلبنانيتي وسعيداً بها دائماً وأبداً، أريد السفر إلى المكسيك أولاً ثم إلى السلفادور ثانياً وصولاً إلى بنما ثالثاً.
– – وماذا تريد أن تفعل في بنما؟
– – أريد أن أغلق قناة بنما! أريد أن أحرض على الانتفاضات هناك ضد مشاريع هنري كيسنجر الأميركي الصهيوني التي تآمرت على شرقنا العربي المتوسطي ووطني لبنان وتريد الآن أن تمسك بمصير منطقة أميركا الوسطى بقبضة حديدية صهيو-أميركية.
أجرى الحارس مكالمة هاتفية استغاثية. جاء فوراً ضابط مخابرات ألماني نازي وقال لريام بابتسامة خبيثة صفراوية: – اذهب إلى شركة كوندور الألمانية ستنقلك طائرتها إلى المكسيك.
اتجه ريام إلى مكتب شركة كوندور للشحن الجوي، إنها شركة للنقل الجوي أسسها هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية. وقف ريام باسماً أمام موظفة حجز التذاكر ودفع مبلغ 2750 ماركاً غربياً. إنه ثمن التذكرة ذهاباً إلى مكسيكو سيتي وإياباً إلى برلين الغربية. جلس ريام على مقعد الانتظار مترقباً الاعلان عن موعد الاقلاع . بعد ساعة من الانتظار، جاءت إليه موظفة الشركة واقتادته إلى السلالم المتحركة التي تؤدي إلى درج الطائرة. وجد ريام نفسه داخل الطائرة الكوندوريه.
ولكن لم يكن في داخل الطائرة أي مسافر آخر سواه! جاء القبطان ومساعده إلى قمرة القيادة. بعد إغلاق الأبواب، بدأت الطائرة تحرك مراوحها الهادرة واتجهت إلى منصى الاقلاع.
أدرك ريام أن المخابرات الألمانية النازية – الصهيونية قررت أن تسلمه إلى المخابرات الأميركية الصهيونية في غوانتانامو أو في نيويورك. إذ هل يعقل أن يسافر راكب واحد من فرانكفورت إلى القارة الأميركية…! فتح ريام غاضباً باب مقصورة القيادة، وقال: أنا لست جاسوساً روسياً كي تخطفوني ولست جاسوساً صينياً – ولست جاسوساً ألمانياً شرقياً – ولست جاسوساً فرنسياً – ولا إنكليزياً ولست بالتأكيد جاسوساً للسي آي إيه الأميركية الصهيونية، بل أنا جاسوس لشجر الأرز والسنديان والشربين العظيم وللكرامة والسلامة والأمانة لشجر البرتقال والتفاح والزيتون المبارك الكريم/ أينما كان وجودها في لبنان الخالد أو في السفوح والجبال شرق طرطوس واللاذقية أو في السفوح والجبال للكرمل الذي سيبقى فلسطينياً دائماً وأبداً أو في جبال طوروس التركية الأناضولية أو في الجبال الأرمينية الشامخة أو في البجال العراقية الكردية أو في جبال القفقاس القوقازية أو في جبال كشمير والهملايا الهندية الصينية أو في غابات فيتنام القهارة للغزاة الأميركيين اليانكيين المعتدين أو في الغابات الجنوبية الغربية لقارة إفريقيا التي ينهب خيراتها الأوروبيون الغربيون والأميركيون الإمبرياليون أو في جبال كليمنجارو الإفريقية أو في جبال اليمن وحضرموت المنفية بالكبرياء التاريخي العظيم أو في الجبال المصرية عند سفوح الساحل الغربي للبحر الأحمر أو في جبال الأوراس الجزائرية المغربية أو في جبال البيرينيه الإسبانية الفرنسية أو في جبال الألب السويسرية أو في جبال الأورال الروسية – السيبيرية
ويمكنك أن تعتبرني جاسوساً لغابات الأمازون العظيم ولأعالي جبال الإنديز والتشيلي المهيبة العظيمة بل حتى أنا جاسوس لأعالي جبال الكولورادو الهندية الأميركية ويمكنكم أن تعتبروني أرزاوياً أو سنديانياً وشربينياً وبرتقالياً وتفاحياً وزيتونياً مباركاً وكريماً تخاف منه الـCIA المتصهينة التي تريد أن تستولي على هذه الأشجار في كل مكان على كوكب الأرض أو تريد أن تتحكم بأسعار تجاراتها
عاد ريام غاضباً إلى مقعده في الطائرة، جاء الكابتن وجلس أمامه مرتجفاً خائفاً. قال له ريام: – هل تعرف ماذا فعلت مع رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة الأميركية الملتهبة بدسائس ومؤمرات الصهاينة في أرجائها الواسعة؟
أجاب الكابتن: – وماذا فعلت؟ قال ريام: – كنت أسكن في شارع بوتسدامرشتراسة 63 في الطابق الحادي عشر قرب متحف الفن الحديث الذي كنت أجلس فيه طوال ساعات متأملاً منحوتات كاندينسكي ولوحات ماكس إرنست وقرب مبنى الفلهارمونية البرلينية الغربية الذي كنت أستمع فيه إلى المعزوفات الكلاسيكية التي كان يقودها هيربرت فون كريان. وهناك من غرفتي في الطابق الحادي عشر اتصلت تلفونياً بالبيت الأبيض وتحدثت مع سكرتيرة الرئيس رونالد ريغان… قلت لها: قولي لرونالد ريغان ما يلي: (باسم الأمة العربية المتحدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الإسلامي يجب عليك يا مستر ريغان أن تحقق السلام الشامل العادل الذي يسترجع من الكيان الصهيوني الغاصب اللعين ما سرقه واغتصبه من الشعب الفلسطيني ويرد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين الفلسطينيين، وإذا لم تفعل ذلك فأنا جيرونيمو زعيم الهنود الحمر الذي غدرتموه في معركة شبيهة بمعركة واترلو مع بونابارت العظيم، أنا جيرونيمو سأدهن بيتك الصهيوني الأبيض باللون الأسود ثم باللون الأسمر المعادي لهذا الحلف اليانكي الصهيوني الشيطاني الذي يريد أن يدمر توق كوكبنا إلى العدالة والكرامة العالمية
ثم سعل ريام أمام الكابتن، وقال: انظر يا صديقي الكابتن إلى خارطة سوريا والعراق والأردن وفلسطين ولبنان وغزة تجدها تجسيماً لقلب كوكبنا المستهدف بالطعنات الإمبريالية الصهيو- أميركية.
سأل الكابتن متعجباً ومندهشاً هل رد البيت الأبيض على مكالمتك الشتائمية لريغان؟ أجاب ريام لقد راحت المكالمة الهاتفية المخابراتية الأميركية الصهيونية توقظني من نومي كل ساعتين وتصرخ في وجهي: – جيرونيمو سنسحلك تحت قطارات أنفاق برلين. جيرونيمو سنشويك كالفروج المحمر في ماكينات شوي الفراريج في بيروتك اللعينة وفي دمشقك اللعينة وفي موسكوبك اللعينة وفي طهرانك اللعينة وفي نيودلهك اللعينة وفي بكينك اللعينة وفي بيونغ يانغك وفي سايغونك اللعينة ثم سنسلقك كالفروج المسلوق في كيب تاونك اللعينة ثم في ريوديجانيرك اللعينة وفي كاراكاسك اللعينة وفي هافانك اللعينة.
ابتسم كابتن الطائرة ومشى إلى مطبخ الطائرة ورجع إلى ريام وأعطاه تفاحة لبنانية حمراء جميلة وصحناً ممتلئاً بزيتون فلسطين ثم دخل إلى قمرة القيادة ورجع بالطائرة إلى مرأب التوقف. وطلب من ريام أن يترجل من الطائرة، فلقد ألغيت الرحلة!
ذهب ريام إلى موظفة قطع التذاكر وطلب منها أن تعيد له المبلغ المدفوع لكن الموظف الألماني الصهيوني المخابراتي شتمه وقال له أيها اللبناني العربي القذر! لن نعيد لك المبلغ لقد أصبح المبلغ ملكاً لشركة كوندور! هاي هيتلر! هاي للسي آي إيه المتصهينة. نحن الصهاينة جنود مالكي الذهب والحديد منذ مؤتمر بازل الصهيوني العام 1897 جلبنا هتلر إلى السلطة انتقاماً من النتائج والعقوبات الاقتصادية الكارثية التي أصابت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وطلبنا من هتلر أن يهاجم الاتحاد السوفياتي أولاً ولكن عندما هاجم هتلر بلجيكا وفرنسا نقلنا حسابات أموالنا إلى بنوك استوكهولم ولندن ثم إلى نيويورك فانقلب هتلر علينا نحن يهود ألمانيا فنكل بنا. هاي لإسرائيل! التي أودتها نازيتنا المتفوقة سنحمي إسرائيل بغواصاتنا الألمانية النووية الباسلة وسنجعل إسرائيل أقوى دولة في العالم كي تفتك بكم أيها العرب وبصحرائكم وبإسلامكم. المجد والخلود لرئيسنا الصهيوني الأميركي العظيم رونالد ريغان.
غادر ريام المطار حزيناً غاضباً شاتماً هذا التحالف الالماني النازي الصهيوني الأميركي الإسرائيلي وتسلق الأسلاك المعدنية حول الساحة الخارجية للمطار ودخل إلى أحضان غابة فرانكفورت . ابتهجت الغابة الألمانية بأطيارها وفراشاتها وغربانها وعصافيرها وسناجبها وأرانبها البرية بزيارة هذا الزائر الغريب، وراحت ترفرف وتدور حول جسده المتعب ووجهه الدامع النحيل. استظل ريام الأندروميدي بجذع سنديانة قديمة عملاقة حنونة واستلقى بين الحشائش والأزهار الشموسية والكواكبية المبتسمة والدامعة بالندى والرحيق واستسلم لنوم عميق! لم يستيقظ ريام الأندروميدي إلا على ضوء القناديل الكاسفة مسلّطة على وجهه يحملها رجال البوليس الألماني. فرك ريام الأندروميدي عينيه مستيقظاً ومحدقاً في قناديلهم وبروجوكتوراتهم وقال: – أنا امبراطور غابات ألمانيا! وقد سرقتم مني حوالي ثلاثة آلاف مارك غربي. السنديان الألماني الجميل والشاهق العظيم يحبني ويباركني والأرز والشربين وأشجار الزاب والصنوبر تعاني من دخان مصانعكم الملوثة للبيئة الألمانية الجميلة ولحياة أبناء ألمانيا المستقبليين.
اغربوا عن وجهي فأنا عائد إلى برلين الغربية. مشى بينهم. كانوا يتحفزون لإلقاء القبض عليه لكن طيور الغابة الألمانية الساحرة زعقت بغضبٍ شديد فوق رؤوسهم! دب الذعر في أجساد هؤلاء المداهمين فأفلتوا ريام ليسير باتجاه برلين… ذهب إلى محطة القطارات الفرانكفورتية من جديد. صعد إلى قطار فرانكفورت – برلين. جلس في مقصورة المطعم القطاري أمام طاولة تبتسم عليها الأزهار الألمانية البديعة الرائعة في مزهرية صلصالية خزفية جميلة. راح ريام الأندروميدي يكتب على دفتر اشتراه من دكان المحطة بعض القصائد والتأملات ويبتسم للأزهار دامعاً ومتفكراً في جميع الخطايا والذنوب التي تنتهك هذا الكوكب الدامع الجميل والحزين.