شكّلت اللّغة على مرّ العصور عنصراً حيويّاً في مسيرة المجتمع، إذ أنّ حضورها عُدَّ من أهمّ المظاهر الدّالة على تماسك المجتمع وقوّة الانتماء فيه، وقد وصل هذا التّقدير للّغة إلى النّظر إليها بوصفها عامل تأسيس الأمّة في الكثير من الأحيان. وإن كانت هذه حال اللّغة عموماً، فما هي الحال بالنّسبة إلى اللّغة العربيّة على وجه الخصوص؟ هذا الموضوع هو الذي لفت انتباه الدّكتورة نادين طربيه حشّاش في مقالتها المنشورة ضمن صفحات عدد مجلّة تحوّلات رقم 91، والمعنونة "احتضار اللّغة".
انطلقت الكاتبة من مسألة أنّ اللّغة العربيّة تعاني من التّقهقر في ظلّ الضّغوط التّكنولوجيّة التي تمارس سلطتها الإغرائيّة على جيلٍ كاملٍ من الشّباب، بحيث تمكّنت من إدخال عاداتٍ في التّخاطب والتّواصل تكسر تماسك لغته وتبعده عنها إلى أقصى ما يمكن. ولعلّ هذه الالتفاتة من الدكتورة حشّاش لها ما يبرّرها، ليس بوصفها شاعرة واثقة اللّغة والمنظور، وليس لكونها باحثة واعدة في اللّغة العربيّة، بل لأنّ هاجس اللّغة يبقى الحاضر الأبرز في طبيعة حضور المجتمع، ولأنّ الأزمة التي تعيشها لغتنا تُعدّ أزمةً وجوديّةً لا موضوعاً عابراً. ومن هذا المنطلق، يجد هذا الموضوع أهمّيّته القصوى في حضورنا الاجتماعي، ويطرح نفسه بوصفه موضوعاً جدليّاً يحتاج إلى تأنٍّ.
ملاحظتي الأولى هو حرص الكاتبة على توجيه دعوتها إلى المتخصّصين من أجل البحث في السّبل الكفيلة بجعل اللّغة أكثر قدرةً على الاستمرار وأكثر شيوعاً بين الجيل الشّابّ. كما أنّها عزت مسألة الضّعف الذي يصيب اللّغة العربيّة إلى الإقبال الحثيث على وسائل التّواصل الحديثة وعلى الوهم الشّائع حول ارتباط الثّقافة باللّغات الغربيّة.
على أنّ ما يجب التّنبّه إليه في هذا المجال، هو الأخذ بنقطتين حساستين في موضوع اللّغة: الأولى تتعلّق بطبيعة العصر، إذ أنّ إقبال الجيل الشّاب على إغراءات الوسائل التّنكولوجيّة لا يجعل المشكلة في تلك الوسائل لأنّها وسائل لتسهيل الحياة إلى جانب سلبيّاتها، وبالتّالي لا يصحّ الوقوف بوجهها، ولا يمكن ذلك بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهذا ما يوصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ هذا الإقبال بما يُبعد عن اللّغة العربيّة، لا ينبع في مشكلةٍ تحويها تلك الوسائل بقدر ما تعود إلى طبيعة تعاملنا مع اللّغة ومع تلك الوسائل، أي تنبع من الذّهنية التي تتعامل مع مختلف الأمور التي نواجهها.
أمّا النّقطة الثّانية فترتبط بطبيعة نظر الباحثين إلى اللّغة العربيّة، فنظرتهم تجعل من هذه اللّغة كياناً معزولاً عن العالم وعن قوانين الحياة. وهنا تكمن المشكلة الأولى، إذ أنّ هذه النّظرة تجعل من اللّغة العربيّة منظومةً منزلةً غير قابلةٍ للتّطوّر والتّكيّف، وهنا يكمن مقتلها، وبالتّالي احتضارها حسب تعبير الدّكتورة حشّاش.
لذا فإنّ الخلاص من حال الاحتضار هذه لا يمكن أن يكون إلاّ بتغيير تلك النّظرة نحو اللّغة العربيّة، وبِعَدِّها منظومةً إنسانيّة الإبداع، أي قابلة للتّأثّر بمعطيات الزّمن والبيئة الاجتماعيّة والجغرافيّة. فهل من مراعٍ لقوانين الوجود والتّطوّر؟ وهل من قارئٍ لها من رؤيةٍ جديدة؟