130
كتابٌ صدر في طبعته الأولى عام 2015، لمؤلفه تيم مارشال. وهو كتابٌ حرصت مجلة «تحولات مشرقيّة» على ترجمة مقدمته إلى اللغة العربيّة تعميمًا للفائدة الثّقافيّة وتعزيزًا للوعي لأهمية الجغرافيا، ولأنه «واحد من أفضل وأهمّ الكتب التي يمكن أن نقرأها أو نتخيّلها عن أهمية الجيوبوليتك»، كما يقول نيقولاس ليزارد.
فهو كتابٌ يلقي الضوء على الماضي والحاضر والمستقبل بتقديم رؤية أساسية عن أبرز العوامل التي تُقرّر التاريخ العالمي، وقد حان الوقت لإعادة الاعتبار إلى عامل الجغرافيا في تحديد الجيوبوليتك.
القادة في العالم مقيّدون في الجغرافيا وخياراتُهم الاستراتيجيّة مرتبطة بواقع وجود الجبال والأنهار والصحارى والبيئة وغيرها من العناصر التي تحدّد وتفرض الاستراتيجيات والأدوار.
هذا الكتاب في فصوله كما في مقدمته، يُؤكّد قيمة كتاب «نشوء الأمم» لباعث النهضة السورية القومية الاجتماعية ورائد علم الاجتماع في المشرق والعالم العربي أنطون سعاده، الذي تناول بمنهج علميّ وباستقراءٍ أهمية الجغرافيا بكلّ عناصرها في تحديد شخصيات الأمم وهوياتها وثقافاتها وحضاراتها ومصالحها وشبكة علاقاتها مع الأمم المجاورة أو على المستوى الأوسع الإقليمي والدولي.
ونجد في كتاب تيم مارشال مقاربات ورُؤى تتقاطع مع مُؤلف «نشوء الأمم» أنطون سعاده، وهو كتابٌ جديد ومعاصر، يُبيّن أن ظاهرة «العولمة» وما يرافقها ويُصاحبها من تطوّر على المستوى التكنولوجي ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقريب المسافات الذي جعل من العالم «قرية تكنولوجية»، لم يُلغِ عامل الجغرافيا الحاسم والضروري في بناء الاستراتيجيات الكُبرى والمصيريّة التي تخدم مصالح الأمم والشعوب.
ترجمة لمقدمة الكتاب:
يقول فلاديمير بوتين إنّه رجل متديّن، وداعم كبير للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وإذا كان الأمر كذلك، فهو يذهب إلى السرير كلّ ليلة، ويقول صلاته ويسأل الله: «لماذا لم تضع بعض الجبال في أوكرانيا».
لو كان الله قد خلق جبالًا في أوكرانيا، فإن المساحة الكبيرة من الأراضي المسطحة والتي هي سهل شمال أوروبا لن تكون مشجّعة لكي يبدأ منها الهجوم على روسيا مرارًا وتكرارًا. وبما أن هذا هو الحال، فليس لدى بوتين خيار، إذ يجب عليه على الأقل محاولة السيطرة على الأراضي المسطّحة الواقعة إلى الغرب. وينسحب هذا الأمر على جميع الأمم، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، إذ تسجن التضاريس قادة هذه الدول، ما يتيح لهم خيارات أقل ومساحة أقل للمناورة مما كنت تعتقد، وكان هذا الأمر صحيحًا بالنسبة إلى إمبراطورية أثينا والفرس والبابليين وما قبلهم؛ وكان ذلك صحيحًا بالنسبة إلى كلّ قائد يبحث عن الأرض المرتفعة من أجل حماية قبيلته.
وغالبًا ما تسهم الأرض التي نعيش عليها بتشكيلنا، فهي التي شكلت الحروب والقوة والسياسة والتنمية الاجتماعية للشعوب التي تسكن الآن تقريبًا كلّ جزء من الأرض.
وقد يبدو أن التكنولوجيا تتغلّب على المسافات بيننا في كلّ من الفضاء العقلي والجسدي، ولكن من السهل أن ننسى أنّ الأرض التي نعيش فيها ونعمل ونربي أطفالنا فيها لها أهمية كبيرة، وأن خيارات أولئك الذين يقودون سبعة بلايين نسمة من سكان هذا الكوكب يتم رسمها إلى حدّ ما من قبل الأنهار والجبال والصحارى والبحار التي تضمّنا جميعًا، وهو الأمر الذي كان يحدث دائمًا.
وعمومًا لا يوجد عامل جغرافي واحد أكثر أهمية من أيّ عامل آخر، فالجبال ليست أكثر أهمية من الصحارى، ولا الأنهار أكثر أهمية من الأدغال. وفي أجزاء مختلفة من كوكب الأرض، تُعتبر المعالم الجغرافية المختلفة من بين العوامل المهيمنة في تحديد ما يستطيع الناس وما لا يستطيعون القيام به.
وبصفة عامة، تنظر الجغرافيا السياسية إلى الطريقة التي يمكن بها فهم الشؤون الدولية من خلال العوامل الجغرافية، وليس فقط عبر المشهد المادي- الحواجز الطبيعية للجبال أو الروابط بين شبكات الأنهار، على سبيل المثال، بل أيضًا من خلال المناخ والتوزيع السكانيّ والمناطق الثقافيّة والوصول إلى الموارد الطبيعية، ويمكن لعوامل من هذا القبيل أن يكون لها تأثير مهمّ على العديد من جوانب حضارتنا المختلفة، تمتدّ من الاستراتيجية السياسية والعسكرية إلى التنمية الاجتماعية البشرية، بما في ذلك اللغة والتجارة والدين.
كثيرًا ما يتم تجاهل الحقائق المادية التي ترتكز عليها السياسات الوطنية والدولية أثناء الكتابة عن التاريخ وفي التقارير المعاصرة عن الشؤون العالمية. ومن الواضح أن الجغرافيا جزء أساسيّ من «لماذا» وكذلك «ماذا»، وقد لا تكون العامل الحاسم، ولكنّها بالتأكيد الأكثر إغفالًا. على سبيل المثال، الصين والهند، دولتان ضخمتان وفيهما عدد كبير من السكان، وتتقاسمان حدودًا طويلة جدًّا ولكنهما ليستا متحيّزتين سياسيًا أو ثقافيًا، ولن يكون من المستغرب أن يخوض هذان العملاقان حروبًا عدة، ولكن في الواقع، وباستثناء معركة واحدة استمرّت شهرًا واحدًا في عام 1962، لم يحصل ذلك أبدًا. والسؤال لماذا؟ لأنه يفصل بينهما أعلى سلسلة جبال في العالم، ومن المستحيل من الناحية العمليّة تجاوز أعمدة عسكرية كبيرة من خلال أو عبر جبال الهيمالايا. ومع ازدياد تعقيد التكنولوجيا، بطبيعة الحال، تظهر طرق للتغلّب على هذه العقبة، ولكن لا يزال الحاجز المادي رادعًا، ولذلك يركّز البلدان في السياسة الخارجية على مناطق أخرى مع إبقاء عين الحذر لكلّ واحدة منهما على الأخرى.
يلعب القادة الأفراد والأفكار المتعلّقة بالتكنولوجيا وغيرهما من العوامل دورًا في تشكيل الأحداث، ولكنّها جميعًا عوامل مؤقتة، ولا يزال كلّ جيل جديد يواجه العوائق المادية التي خلقها الهندوس كوش وجبال الهيمالايا، والتحديات التي خلقها موسم الأمطار، ومساوئ الحصول على المعادن الطبيعية أو مصادر الغذاء.
أصبحتُ مهتمًّا بهذا الموضوع لأول مرّة عند تغطية الحروب في البلقان في التسعينيات من القرن الماضي. لقد شاهدتُ وأنا على مقربة من زعماء مختلف الشعوب، سواء كانوا من الصرب أو الكروات أو البوسنيين، وهم يقومون بتذكير «قبائلهم» عمدًا بالانقسامات القديمة. نعم، الشكوك القديمة في منطقة مزدحمة بالتنوّع العرقي، وبمجرد أن يكونوا قد سحبوا الشعوب من بعضها، فلن يُستغرق الكثيرُ من الوقت عند ذلك لدفعها ضدّ بعضها بعضًا. ونهر إيبار في كوسوفو مثال رئيسٌ على ذلك، فبعد تعزّز الحكم العثمانيّ في صربيا في معركة كوسوفو بوليي عام 1389، والتي جرت بالقرب من جريان نهر إيبار عبر مدينة ميتروفيتشا، وعلى مدى القرون التالية، بدأ السكان الصرب الانسحاب إلى ما وراء نهر إيبار، بينما كان الألبان المسلمون ينحدرون تدريجيًا من جبال منطقة ماليسيجا إلى كوسوفو، حيث أصبحوا الغالبية هناك بحلول منتصف القرن الثامن عشر.
سريعًا إلى الأمام باتجاه القرن العشرين، وكان لا يزال هناك تقسيم على أساس عرقيّ/ دينيّ واضح تم تشكيلُه من قبل النهر تقريبًا، ثم بعد ذلك في عام 1999 بعد أن هاجمه الناتو من الجو وجيش تحرير كوسوفو من الأرض، تراجع الجيش اليوغوسلافي (الصربي) عبر نهر إيبار، وتبعه بسرعة معظم ما تبقى من السكان الصرب، وأصبح النهر الحدود الفعليّة لما تعترف به بعض الدول الآن كدولة مستقلّة في كوسوفو.
كما كانت ميتروفيتشا أيضًا النقطة التي توقّف عندها تقدّم الناتو بالقوّات البرية. وخلال الحرب التي دامت ثلاثة أشهر كانت هناك تهديدات مبطّنة بأن الناتو يعتزم غزو جميع أنحاء صربيا. والواقع أن القيود المفروضة بسبب كلٍّ من الجغرافيا والسياسة تعني أن قادة حلف شمال الأطلسي لم يكن لديهم مثل هذا الخيار، وقد أوضحت هنغاريا أنها لن تسمح بغزو ينطلق من أراضيها، لأنها تخشى الانتقام من 350 ألفًا من أفراد الإثنية الهنغارية يعيشون في شمال صربيا. وكان البديل عن ذلك غزو من جهة الجنوب، الأمر الذي كان من شأنه أن يوصلهم إلى إيبار بوقت قصير وسرعة مضاعفة، ولكن كان الناتو عندها في مواجهة الجبال من فوقه.
كنتُ أعمل مع فريق من الصرب في بلغراد في ذلك الحين، وسألتُ: ماذا سيحدث لو جاء حلف شمال الأطلسي؟ «سنضع كاميراتنا جانبًا، يا تيم، ونحمل البنادق» كان هو الرد. وكانوا صربًا ليبراليين، وأصدقاء جيدين لي، ومعارضين لحكومتهم، لكنهم كانوا لا يزالون يُخرجون الخرائط ويُظهرون لي أين يدافع الصرب عن أراضيهم في الجبال، وأين يستعدّ حلف الناتو للتوقف. كان من المفيد أن يتم إعطاء درس في الجغرافيا، في الأسباب التي جعلت خيارات الناتو أكثر محدودية، ذلك أكثر مما نشرته آلة العلاقات العامة في بروكسل إلى العلن.
وقد استوقفتني أهمية فهم مدى أهمية التضاريس الطبيعية في إرسال التقارير الإخبارية في البلقان بشكل جيد في السنوات التي تلت ذلك. فعلى سبيل المثال، في عام 2001، وبعد بضعة أسابيع من أحداث الحادي عشر من أيلول، رأيتُ عرضًا يوضح كيف أن المناخ، حتى مع التكنولوجيا الحديثة ليومنا الراهن، لا يزال يملي الإمكانيات العسكرية حتى على أقوى الجيوش في العالم. كنت في شمال أفغانستان، بعد أن عبرت النهر الحدودي من طاجكستان على عوامة، من أجل التواصل مع قوات التحالف الشمالي الذين كانوا يقاتلون طالبان.
وكانت الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل الأميركية فعليًا في الأعلى، تقصف مواقع كلّ من طالبان والقاعدة على السهول والتلال الباردة والممتلئة بالغبار إلى الشرق من مزار الشريف من أجل تمهيد الطريق للتقدّم باتجاه كابول، كان من الواضح بعد بضعة أسابيع أن قوات الجيش الوطني كانت تستعدّ للتحرك جنوبًا، ثم تغيّر لون العالم.
وشهدتُ هبوب العاصفة الرملية الأكثر كثافة، والتي جعلَت كل شيء يتحول إلى لون الخردل الأصفر، ويبدو حتى الهواء من حولنا أصبح لديه نفس مسحة اللون، وبات سميكًا لأنه ممزوج مع جزيئات الرمل، ولم يتحرّك شيء طيلة ست وثلاثين ساعة سوى الرمل، ولا يمكنك أن ترى بوضوح في ذروة العاصفة أكثر من بضع ياردات إلى الأمام، والشيء الوحيد الواضح هو أن إحراز تقدّم يحتاج إلى انتظار الطقس.
كانت تكنولوجيا الأقمار الصناعية الأميركية، وهي في طليعة العلم، عاجزة، وعمياء عن مواجهة مناخ هذه الأرض البرية، وكان على الجميع، بدءًا من الرئيس بوش ورؤساء الأركان المشتركة لقوات الجيش الوطني على الأرض، الانتظار فقط.
ثم أمطرت بعد ذلك، وتحولت الرمال التي استقرّت على كل شيء، وعلى الجميع إلى طين. نزل المطر بشدّة، حيث كانت الأكواخ المبنيّة من الطين المشوي والتي كنا نعيش فيها تبدو وكأنها تذوب. كان من الواضح مرة أخرى، أنّ التحرّك جنوبًا كان متوقّفًا إلى أن تنتهي الجغرافيا من الإدلاء بقولها، فلا تزال قواعد الجغرافيا، التي كان يعرفها كلّ من هانيبال وسون تزو والاسكندر الأكبر تنطبق على قادة اليوم.
في الآونة الأخيرة، في عام 2012، تلقيت درسًا آخر في الجغرافيا: حيث انزلقت سوريا في حرب أهلية كاملة، وبينما كنتُ واقفًا على قمة تلة سوريّة، تطل على وادي جنوب مدينة حماة، رأيت قرية وهي تحترق عن بعد، وأشار أصدقاء سوريون إلى قرية أكبر بكثير على بعد ميل واحد، قالوا إن الهجوم قد جاء منها، ثم أوضحوا أنه إذا كان بإمكان أحد الجانبين دفع ما يكفي من الناس من الفصيل الآخر خارج الوادي، فيمكن عند ذلك انضمام الوادي إلى الأراضي الأخرى التي تؤدي إلى الطريق السريع الوحيد في البلاد، وسيكون مفيدًا على هذا النحو في نحت قطعة من أرض مجاورة قابلة للحياة والتي يمكن استخدامها يومًا ما لإنشاء دولة صغيرة إذا كان لا يمكن إعادة سوريا مرة أخرى كما كانت، وحيثما رأيت قرية صغيرة وهي تحترق، أستطيع الآن أن أدرك أهميتها الاستراتيجية وأن أفهم كيف تتشكل الحقائق السياسية بواسطة الحقائق المادية الأساسية.
تؤثر الجغرافيا السياسية في كلّ بلد، سواء في الحرب، كما هو الحال في الأمثلة أعلاه، أو السلم، وهناك حالات في كلّ منطقة يمكنك إطلاق اسم عليها. لا أستطيع في هذه الصفحات استكشاف كل واحدة منها، فهناك في كندا وأستراليا وإندونيسيا، من بين دول أخرى، ليس فقط أكثر من ذكر موج، على الرغم من أنه يمكن تكريس كتاب بكامله لأستراليا وحدها والطرق التي شكّلت بها جغرافيتها صلاتها مع أجزاء أخرى من العالم، جسديًا وثقافيًا. وركّزت بدلًا من ذلك على القوى والمناطق التي توضح أفضل النقاط الرئيسية في الكتاب، والتي تغطّي إرث الجغرافيا السياسية من الماضي (تشكّل الأمة)؛ أكثر الحالات إلحاحًا التي نواجهها اليوم (المشاكل في أوكرانيا، والنفوذ المتزايد للصين)؛ والتطلع إلى المستقبل (المنافسة المتنامية في القطب الشمالي).
ونجد في روسيا، تأثير القطب الشمالي، وكيف أن مناخه المتجمد يحدّ من قدرة روسيا على أن تكون قوة عالمية حقًا، وفي الصين نجد القيود التي تعوق القوة من دون البحرية العالمية، وكيف أنه في عام 2016 كانت السرعة التي تسعى الصين فيها لتغيير هذا الأمر أصبحت أمرًا واضحًا. ويوضح الفصل الخاص بالولايات المتحدة الأميركية أن القرارات الدؤوبة لتوسيع أراضيها في مناطق رئيسة سمحت لها بتحقيق مصيرها الحديث كقوّة عظمى تتربع على محيطين. وتبيّن لنا أوروبا قيمة الأرض المسطّحة والأنهار الملاحية في ربط المناطق ببعضها بعضًا وإنتاج ثقافة قادرة على بدء العالم الحديث، في حين أن إفريقيا مثال رئيسيٌّ عن آثار العزلة.
ويوضح الفصل المتعلّق بالشرق الأوسط، لماذا رسم خطوط على الخرائط وتجاهل الطبوغرافيا هو بالقدر نفسه من الأهمية، والثقافات الجغرافية في منطقة معيّنة هي وصفة لحدوث المشاكل، وسنظلّ نشهد هذه المشكلة في هذا القرن. ويظهر الموضوع نفسه في الفصول عن إفريقيا والهند وباكستان. وقد رسمَت القوى الاستعمارية حدودًا صناعية على الورق، متجاهلة تمامًا الحقائق المادية للمنطقة. وتجري الآن محاولات عنيفة لإعادة رسمها، محاولات ستستمرّ لسنوات عدّة، وبعد ذلك لن تبدو خريطة الدول القومية كما هو الحال الآن.
والأمثلة عن كوسوفو أو سوريا مختلفة جدًا عنها في اليابان وكوريا، لأنهما دولتان متجانستان عرقيًا. ولكن لديهما مشاكل أخرى، فاليابان هي دولة لجزيرة خالية من الموارد الطبيعية، في حين أن تقسيم الكوريتين مشكلة لا تزال تنتظر الحل. وفي الوقت نفسه، أميركا اللاتينية هي المثال الشاذ، فهي في جنوبها الأقصى مقطوعة عن العالم الخارجي، أي إن التجارة العالمية أمر صعب، وجغرافيتها الداخلية عائق ضدّ إنشاء كتلة تجارية ناجحة مثل الاتحاد الأوروبي.
وأخيرًا، نأتي إلى واحد من أكثر الأماكن غير الصالحة للسكن على الأرض، وهو القطب الشمالي، الذي تجاهله البشر معظم التاريخ، ولكننا عثرنا في القرن العشرين على الطاقة هناك، وسوف تحدّد دبلوماسية القرن الحادي والعشرين من يملك -ويبيع- هذا المورد.
يمكن أن تفسَّر رؤية الجغرافيا كعامل حاسم في تاريخ البشرية على أنها نظرة قاتمة للعالم، وهذا هو السبب في أنها ليست مرغوبة في بعض الدوائر الفكرية، فهي تفترض أن الطبيعة أقوى من الإنسان، وأننا لا نستطيع المضي في تقرير مصيرنا إلى حدّ بعيد. ومع ذلك، هناك عوامل أخرى لها تأثيرٌ واضح على الأحداث أيضًا، ويمكن لأيّ شخص عاقل أن يرى أن التكنولوجيا الحديثة تنحني الآن أمام القواعد الصارمة للجغرافيا، وقد وُجدت طرقٌ فوق أو تحت أو من خلال بعض الحواجز. يمكن للأميركيين الآن أن يجعلوا طائرة تطير طوال الطريق من ولاية ميسوري إلى الموصل في مهمة تفجير، دون الحاجة إلى أرض من الخرسانة على طول الطريق للتزوّد بالوقود، هذا، بالإضافة إلى طائراتهم الضخمة، من مجموعات حاملة المعارك، المكتفية ذاتيًا بشكل جزئي، بما يعني أنه لم يعد لديها حاجة على الإطلاق إلى حليف أو مستعمرة من أجل توسيع نطاقها الكوني في جميع أنحاء العالم. وبطبيعة الحال، إذا كانت لديهم قاعدة جوية في جزيرة دييغو غارسيا، أو وصول دائم إلى ميناء البحرين، عندها سيكون لديهم المزيد من الخيارات، ولكنها أقلّ أهمية.
لذلك فقد غيّرت القوى الجوية القواعد والقوانين، كما هو الحال مع الإنترنت ولكن بطريقة مختلفة. ولكن كيف أن الدول أسّست نفسها داخل الجغرافيا والتاريخ، لا يزال أمرًا حاسمًا لفهمنا لعالم اليوم ولمستقبلنا.
الصراع في العراق وسوريا متأصّل في القوى الاستعمارية متجاهلًا قواعد الجغرافيا، في حين أن الاحتلال الصيني للتيبت متجذّر في طاعتها؛ إلا أنها تُملي السياسة الخارجية العالمية لأميركا، بل إن العبقرية التكنولوجية وإسقاط طاقة القوة العظمى، وهي الأخيرة التي ما زالت قائمة، من الممكن أن يخفف من القواعد التي تصدرها الطبيعة أو الله.
ما هي تلك القواعد؟ والمكان الذي سنبدأ منه هو تلك الأرض، حيث يكون من الصعب الدفاع عن السلطة، ولذلك قام قادتها بالتعويض عن ذلك ولعدة قرون عن طريق الدفع إلى الخارج. إنها الأرض التي من دون جبال إلى الغرب منها، إنها روسيا.