تحفل رواية سحر خليفة، عبر تشابك خطوط منجزها الروائي الأخير أرض وسماء، في الكشف عن عوالم المفكر والمناضل النهضوي أنطون سعاده في مقاربة أدبية / تاريخية ولنا أن نتصور جماليات هذا اللقاء ليبدو العمل كوثيقة تاريخية، لا يمكن القفز فوق حرارة أحداثها وحمى وطيسها، بعيدا عن القداسة والإنحيازات غير الموضوعية غالب الأحيان، وسيل الأوهام والكاذيب التي طالت سيرة هذا الرجل الملحمي.
تتداخل خطوط الرواية ليغدو الماضي في محرق الحاضر. تعدد الأزمنة في رواية خليفة ليس استمرارا خطيا، بل ينحو ليكون بمساراته المعقدة واللولبية فعل التاريخ عينه، وتقدمه المأساوي لم يأت سعاده من فراغ. فقد شهد الويلات والكوارث ورأى الفقر والتخلف، وحكم الأتراك وسفر برلك ثم المجاعة الرهيبة وموت الآلاف.
وقد اختار سعاده الجامعة الأميركية، منطلقاً له لتأسيس حزب طليعي من الشباب المتعلم. بهذا المعنى كان سعاده رجل الضرورة. ومِرجَلَ حاجات التغيير في عصره وفي ثنايا همه المقيم، كانت تبزغ قصة حب استطاعت سحر خليفة كشف جمالياتها عبر رسائل الحب المتبادلة بينه وبين صديقته المقدسية ليزا اندراوس، وقد بدأت علاقتهما منذ سنين قبل الحرب العالمية الثانية، حين كانا يدرسان في الجامعة الأميركية.
حملت الرسائل عبق المشاعر الناضجة، والألم مما آلت إليه أوضاع بلاد الشام: امتزجت مشاعر الحب بالوجع القومي. تلك الرسائل التي ترشح بأسمى معاني الحب يُغلب فيها سعاده فيض عواطفه: "وردتني رسالتك الحاملة وريقات نرجسة متناثرة، يضوع شذاها، فقلبت هذه الوريقات التي لامست أناملك، وشفتيكِ وتنشقت طيبها الرامز إلى طيب انفاسك، وقد سمعت خفقان قلبكِ يجاوب ضربات قلبي في هدأة الليل في غرفتي". وفي موضع آخر من الرواية تكشف سحر خليفة عن رسالة سعاده لليزا: "لولا الحب لما كان لأي تفاهم قيمة، فالحب هو الرابطة الأساسية لا الزواج، الزواج يكمل الحب، ولا يكمل الحب الزواج". ولأن الحب لم يكن في يوم من الأيام إلا وعرا في مجراه (شيكسبير) لم تشأ الأقدار أن تجمعهما.
وتوحد أقدارهما في سيرورة الحب والنضال القومي، في افتراق مرير لا حول لهما به ولا مستطاع. كان انطون سعاده شاهداً وفاعلاً في أحداث عصره، ووطنه المدمى بالتقسيم والتخلف الاجتماعي والسياسي، والبحث عن مواطن الداء والدواء، لتحرير الإنسان من كل قيوده. ولأنه لم يكتف بالتأمل في أوضاع وطنه، لم تكن تجربة (الوادي الكبير) إلا أنموذجا مصغرا عما يجب ويمكن أن يكون به الوطن الكبير، تلك التجربة التي قدمتها سحر خليفة على طبق الرواية / الوثيقة بددت الكثير من الأوهام وغلالات الزيف مما لحق بالرجل وتجربته السياسية والحزبية. وفي معرض تلك الرواية / السيرة تلتقط سحر خليفة حرارة تفاصيل أحداث تراكم عليها غبار الزمن، في كشف العلاقة المتوترة حينا، والمتساوقة حيناً مع الجنرال حسني الزعيم، والأوهام التي رافقت تلك العلاقة غير المتجانسة التي جمعت بين أناس ذوي مبادئ، وأهداف جادة وبين بيدق استعماري – عربي رجعي، لم يطق ذرعا بسعاده وحزبه، وللتآمر عليه في خيانة موصوفة بالغدر، وصولا عبر سرد الرواية إلى أجواء محاكمة سعاده التعسفية التي ارادوها هزلية، فَحولّها من منبر دفاعه عن نفسه، إلى وثيقة إدانة تاريخية، لكل من تآمر على مشروعه النهضوي والقومي، والتخلي عن فلسطين في سوق النخاسة الدولي، في مسعىً إحيائي قدمته سحر خليفة بروح المؤرخ الموضوعي والأديب المبدع.
كلمة أخيرة :
"كثير منا انطوى على أحزانه، وغلبه اليأس، وبعضنا تاه وتغرب عن وطن ولقمة عيش، وبعضنا استغول، وبات بضاعة تشترى وتباع في سوق النفط" (أرض وسماء ص 253). تأتي هذه الرواية لتشحذ الهمم عبر فهم التاريخ وما آلت إليه الحال العربية، وأن نهوض الأمة غير ممكن الإنجاز إلا عبر التجارب الكفاحية والنهوض بأعباء الواجب كل من موقعه في لحظة تاريخية عصيبة تتهدد المنطقة وشعوبها، واستلاب إنسانها، هذا الاستلاب الذي لم يغادر هم الرواية وهو ما عبرت عنه بقلم الشاعر الشعبي المصري عبد الرحمن الأبنودي، والتي غناها الفنان مروان خوري :
بنلف بدواير والدنيا بتلف بينا
ودايما ننتهي لمطرح ما بدينا
طيور العمر تايهة في عتمة المدينة
وندور.. وندور… وندور
ساكنين في عالم يعشق الخطر
فيه الطيور تهرب من الشجر
وتهرب النجوم من القمر
وتهرب الوجوه من الصور
وندور.. وندور.. وندور
بنلف بدواير ندور عا الأمان
وتلاقينا رجعنا لنفس المكان
وندور.. وندور.. وندور
ولا حاضر ولا ماضي
تروس بتلف عا الفاضي
وما فيش غير إننا ندور
ندور.. ندور.. ندور
• رواية أرض وسماء : سحر خليفة.
إصدار دار الأداب.
سنة 2013